بسام المعطي.. ضرير فلسطيني يحيك تطريزا
بنظرة ثاقبة وبما تبقى له من بصر نجح بسام المعطي في إيلاج خيط رفيع في سَمِّ إبرته بعد محاولة أو اثنتين، ثم أخذ يدق بها غرزا في قطعة قماش أعدت خصيصا لتكون مطرزة لفلاحة فلسطينية تحمل فأسا وتعمل في أرضها.
في مهنة أضحت مقتصرة بشكل شبه كامل على النساء، يبدع الشاب الفلسطيني بسام المعطي (36 عاما) رغم إعاقته البصرية عملا في صنع مطرزات مختلفة، بما يعكس إرادة صلبة وجهدا عظيما للوصول لهذه المرحلة الممتدة لخمسة وعشرين عاما.
كل ما احتاجه المعطي وهو يحيك أمامنا قطعة التطريز إضاءة بسيطة ليقوم بمهمته على أكمل وجه، فالمكان لم يلبِّ حاجته ولا سيما أن نسبة العجز لديه تصل لـ95%، بدأ ولمّا ينتهِ من عمله إلا عندما طلبنا منه ذلك، لنواصل الحديث حول حكايته مع التطريز.
لم يحالفه الحظ في التعليم الأكاديمي رغم وصوله للثانوية العامة، فاتجه لتعلم حرفة يقتات منها وتغنيه عن الناس، فوجد بالمدرسة العلائية للمكفوفين بمدينته بيت لحم جنوب الضفة الغربية فرصته لذلك، وتعلم صنعة التطريز رغم صعوبتها وتخصص بالحياكة للإناث.
لم يدهشنا المعطي وحدنا وهو يواصل غرز إبرته ليكمل لوحته التشكيلية، بل علت الدهشة وجوه الحاضرين لمعرض للمنتجات الفلسطينية أقيم بمدينة نابلس شمال الضفة الغربية حيث تعرفنا إليه هناك.
رأس مال
يقول المعطي بينما استدار مخلفا وراءه عدته من خيطان التطريز والإبرة: "هذا رأس مالي، ورفيقي منذ 25 عاما قضيتها بين التدريب والعمل، والآن غدوت مدربا لهذه الحرفة العظيمة".
منذ صغره سعى الشاب المعطي ليكون مختلفا، ووجد بهذه الصنعة ما يبحث عنه وبالتالي "سر تميُّزه" كان باحترافها جيدا، وبتعلم أنواعها وأشكالها قطبها، لكنه تميز أكثر في شيء لا يتقنه كثيرون حتى من لهن باع في التطريز، فانفرد بالتطريز بـ"النتش".
هذا اللون من التطريز (النتش) له وجهان، ناعم من الأمام وآخر خشن من الخلف أعد وفق لغة "بريل" الخاصة بالمكفوفين، بحيث يعرف الضرير الشكل المطرز من ملمسه، ويقول: "أعمالي تلبي حاجة الناس الأسوياء والمعاقين بصريا معا".
وتشير بيانات الإحصاء المركزي الفلسطيني إلى أنه وحتى عام 2017، فإن 255 ألفا و228 فردا في فلسطين يعانون إعاقة واحدة على الأقل، وتصنف البصرية بأنها الإعاقة الثانية بعد الحركية وتشكل 2.6%.
بهذه الأرقام المتصاعدة يفقد المعطي حقه في وظيفة عمومية تعينه على شظف العيش، ولا يزال الخيط والإبرة سندَيه في كسب قوته، متخذا من المعارض فرصته لتسويق مشغولاته، ويقول: إنها "أكثر جدوى" وتعزز علاقته بالزبائن مباشرة رغم نشاطه ومحاولاته التسويقية عبر وسائل التواصل الإجتماعي.
تراث
علت أعماله الجدران فوق رأسه في المعرض، وتنوعت بين التراث الفلسطيني بمختلف أشكاله في العمل بالأرض أو المنزل أو بالفرح عبر لوحة العرس الفلسطيني والتعليقات الصغيرة (الميداليات)، وأبدع المعطي في نقش مطرزات لرموز ومقدسات مثل مسجد قبة الصخرة وآيات قرآنية.
ولم ينس التعايش بين المسلمين والمسيحيين بمدينته بيت لحم -مهد السيد المسيح عليه السلام- فحاك رسما لموزع الهدايا بالأعياد المسيحية لبابا نويل (سانتاكلوز).
إلى جانب المطرزات ظهرت مكانس الشوارع وفُرَش طلاء، فالشاب المعطي يبدع في صنعها، وهي لا تقل صعوبة عن التطريز، فهي تحتاج لدقة عالية في الغرز والتصفيف في قاعدتها الخشبية، ويقول: "أستغل كل حرفة تعلمتها لأنتفع بها".
هذا الاحتراف قاد المعطي إلى مضمار التدريب ليحوز على شهادتين دولية وفلسطينية بهذا المجال، ويصبح معتمدا دوليا في البرلمان العربي لخبراء التدريب في الأردن، ويعقد بناء على ذلك الدورات التدريبية المتعددة للنساء ومن يقصده من الرجال.
مدرب
يسحر الشاب الضرير بعمله أعين الناس ممن يرون نتائج صنعه واقعا، وأكثر من يشدُّه المنظر هو النساء المهتمات بمعرفة طريقته، ومنهن من سعى للتعلم منه مباشرة.
تقول ياسمين سمير التي اتخذت زاوية لعرض بضاعتها من الملابس الجاهزة: إن قدرة بسام فاقت توقعاتها كما الأخريات "فهو يمارس أصعب أنواع القطب وأكثرها دقة، ورغم ذلك يبدع بها".
"كل ذي إعاقة جبار"، مقولة يحاول بسام المعطي إسقاطها على أرض الواقع، ويراها سلاحا مهما له ولنظرائه ممن يعانون الإعاقة بشكل أو بآخر، الذين لم ينسهم حتى في مشاركاته، فاصطحب بعض أعمالهم من الخشب المحفور وغيره لبيعها لهم.
المصدر : الجزيرة
أضف تعليق
قواعد المشاركة