التراث الفلسطينيّ.. حكاية الأرض للعاشقين
هبة الجنداوي
صحافية وناشطة فلسطينيةفي مثل هذه الأيام من كلّ عام يطلّ علينا معرض بيروت الدولي للكتاب، تهرع دور النشر والمراكز الثقافية إلى عرض إصداراتها المختلفة فيه، للترويج لها وحصد المزيد من المبيعات. وكعادتنا نحن كلّ عام لا بدّ من زيارةٍ لذلك المعرض الذي يقام بدورته ال 58 في البيال وسط العاصمة بيروت... عندما تدخل المعرض تجد كالعادة دور النشر تنتشر هنا وهناك، والكتب سيّدة الموقف تتنوّع بين علمية، ترفيهية، دينة، لغات، كتب أطفال، طبخ، روايات... لكن ثمة زاويةٌ في وسط المعرض قد خرجت عن ذلك المحور الذي يسيطر عليه الكتاب، لتعرض محتوياتها عن التراث الفلسطيني تحت إسم "جذور"، بشكل أنيقٍ يجذب القلب قبل العين، ليتأمل ما تبقى من رائحة الأرض الطيّبة.
زاويةٌ محطّ الأنظار والقلوب..
على الرغم من أنّ مشغل "جذور" للتراث الفلسطيني، الذي هو الشق التراثي لدار العودة، لم يكن المؤسسة الفلسطينية الوحيدة المشاركة في المعرض، إلّا أنّه قد تميّز فيما يعرضه من مطرّزاتٍ وأثواب تمثّل المدن والقرى الفلسطينية المختلفة، وحقائب مطرّزة، بالإضافة الى التذكارات الجميلة المزخرفة بالخرز، وأخرى تحمل حنظلة، والقدس، والعلم الفلسطيني وغيرها... أشياءٌ مميّزة راقت رواجاً وإعجاباً كبيرين لدى روّاد المعرض من وزراء ونوّاب وأدباء وإعلاميين وأشخاص من جنسيّات مختلفة. وكان التأثّر فيها وبما ترمز إليه كبيرٌ جداً بينهم.
ربما قد يظنّ البعض أننا نبالغ بعض الشيء في وصف مدى تأثر النّاس فيما رأوه من المعروضات التراثيّة الفلسطينية، لكن مشهداً معبّراً حصل أمامنا قد جعل الكلمات تقف عاجزةً عن إعادة تصويره، "فبينما نحن واقفون أمام زاوية "جذور"، مرّ بنا رجلٌ يبدو في الستّين من عمره، وقف يتأمّل بالمحتويات، وأخذت عيناه تتنقّل بتثاقلٍ بين الأشياء، ويهزّ برأسه كأنّه يتحسّر على شيءٍ ما.. حاول الشاب المناوب في القسم أن يتكلّم معه ويشرح له لكنّه لم ينبس ببنت شَفَةٍ، وما كان منه إلّا أن أطلق زفرةً حملت معها ألماً بدا واضحاً في عينيه.. فذهب والدموع على خدّيه!
عبرةٌ في مشهد..
مشهدٌ أخر يلامس القلب يرويه محمد أبو ليلى المدير التنفيذي لمشغل "جذور"، يقول محمد: "زارنا في اليوم الرابع للمعرض شابٌ ياباني، وقف وأخذ يتأمل بالموجودات وهو يبتسم، أحبَّ المطرّزات كثيراً، سألني إن كان من الممكن أن يدفع عن طريق بطاقة البنك، قلت له للأسف لا، فما كان منه إلّا أن ركض مسرعاً الى الصرّاف الآلي حتى يأتي بالنقود".. فاشترى عدّة مطرّزات بأشكالٍ مختلفة، سألته عن سر اهتمامه بالتراث الفلسطيني، فقال لي: "إنّ فلسطين قضيّة العالم أجمع، وإنّني أعشق فلسطين وأحبّ أن أقتني كل شيء يرمز لها حتى تبقى في قلوبنا".
ويضيف "أبو ليلى" أنّ هذا الإقبال والتأثر الذي لامسناه في قلوب الكثير من روّاد المعرض قد جعل من عناء العمل هباءٍ منثورا، وزادنا همّةً في أن نقدّم أفضل ما لدينا العام القادم، وبشكل أوسع مكاناً ومضموناً. ويقول أيضاً "أنّ الشعور بالخوف والمجاذفة لازمنا مراراً قبل بدء المعرض نظراً أننا سنتوجه الى ساحةٍ مفتوحةٌ ومتعدّدة الجنسيّات والثقافات.. لكن الأيّام الأولى أثبتت عكس ذلك تماماً، حيث وجدنا إهتمام كبير لدى الناس بالفكرة. وكان البعض يسألنا عن سبب اختيار هذا المعرض كونه للكتاب، لعرض التراث الفلسطيني، يقول أبو ليلى "كنّا نجيبهم بأنّ التراث هو ثقافة بحدّ ذاته وهو رديفٌ للكتاب، وفيه من المعرفة والثقافة الكثير، بالإضافة الى أننا نسعى الى الحفاظ عليه من أي مساسٍ أو سرقةٍ من قبل العدو الصهيوني..
تراثٌ يجمعنا...
كم من محاولاتٍ يسعى فيها المارقون الى تلويع التراث وسرقته، ظنّاً منهم أنّهم إن احتلوا الأرض وطردوا أهلها، بات حقاً لهم امتلاك طيّباتها وتراثها وتاريخها دون رقيبٍ، باعتبار "أنّ الكبار يموتون والصغار ينسون
في نظرهم!!
"لكنّهم لم يعلموا أنّ لهذه الأرض هيبتها وناسها، وأنّ فلسطين وتاريخها قد جمعت العالم رغم كلّ المشاكل التي تعصف بالعالمين العربي والإسلامي". يقول ضاهر صالح مندوب دار العودة.
لم يكن يحلم من قال أنّ التراث يختصر تاريخ أمّة، فهو من أجمل ما يحمله تاريخ شعبٍ ما.. فيه ترى اقتباساتٍ لحياةِ الأجداد وجيل النكبة، وفيه تتذوّق حبّهم الراسخ للأرض المباركة، وفيه تسرح مخيّلتك في زمنٍ غابرٍ طبعت الألأأرض بصمتها الذهبية عليه، وتشبّثت جذورها فيه بإحكامٍ، كأنها كانت على درايةٍ بأنّ هذا التراث سيكون صلة الوصل بينها وبين من غادرها الى منفىً بعيد.
أضف تعليق
قواعد المشاركة