جورج حبش… سيرةُ قائدٍ عصاميٍّ في زمنٍ يزدحمُ بالمُرتزقةِ!

منذ ساعتين   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

في ذاكرة الحركات الثورية الحديثة، تبقى بعض الأسماء مشعّة كأنّها خرجت من زمنٍ آخر؛ زمنٍ لم تكن فيه السياسة دكانة، ولا المقاومة عنواناً مستهلكاً في نشرات الأخبار. وفي طليعة تلك السير المضيئة، يقف جورج حبش، القائد العصامي، الطبيب الذي عالج جراح شعبٍ بأكمله، والمناضل الذي عاش نظيفاً في أنقى ما يمكن أن تحمله كلمة “نظافة” من معانٍ سياسية وأخلاقية وبشرية.

 

وُلد جورج حبش في اللد، مدينةٍ كانت تنبض بالأسواق والمقاهي والبيوت المتواضعة، قبل أن تتحوّل فجأة إلى عنوان للنكبة. طفولته لم تكن ناعمة، بل كانت قاسية كأنها تُعدّه لرحلة طويلة من الشقاء والوعي المبكر. تهجير عائلته عام 1948 لم يكن مجرد حدث سياسي؛ كان الشرارة التي صهرت روحه. رأى طفلاً كيف يُطرد الإنسان من أرضه بلا ذنب، وكيف يتحوّل الوطن، بلمح البصر، إلى حنينٍ دائم وجرحٍ لا يندمل.

 

منذ تلك اللحظة، صار جورج حبش يقرأ العالم من ثقب الألم الفلسطيني. كان يدرك أنّ من يفقد وطناً صغيراً، يكسب بالمقابل قدرةً على حمل أوطانٍ كاملة على كتفيه.

 

لم يذهب جورج حبش إلى كلية الطب ليتحوّل طبيباً بالمعنى التقليدي. ذهب وهو يحمل يقيناً بأن شفاء الأجساد وحده لا يكفي، وأن الشعوب المقهورة تحتاج علاجاً من نوع آخر: علاجاً يبدأ من الوعي، ويمرّ بالتحريض، وينتهي بالفعل الثوري.

 

أسّس “حركة القوميين العرب” مع رفاقه، ثم كان العقل المؤسس لـ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. في كل محطة، كان يصرّ على أنّ الثورة ليست شعاراً يُرفع، بل منظومة أخلاقية قبل أن تكون عسكرية.

كان يرفض النزعة الفردية، يكره عبادة الأشخاص، ويؤمن بأنّ القائد الحقيقي هو الذي يصنع قادة، لا أتباعاً.

 

من الصعب الحديث عن جورج حبش(أبو ميسا) دون الوقوف أمام صفة ظلّت تلاحقه حتى وفاته: عصاميته.

بنى نفسه بيديه، بنى فكره من قراءاته، وصقل رؤيته من احتكاكه المباشر بالناس. لم يدخل الثورة من باب الوجاهة، ولا من بوابة النفوذ العائلي، ولا من صالونات السياسة، بل من الخيام، من المخيمات، من يد الفقير الذي يعصر يومياته ليعيش.

 

والأهم، أنّه قائد نظيف. نظيف من الفساد، من التسلّق، من الحسابات الصغيرة. لم يراكم ثروة، لم يتورط بصفقات، لم يشترِ ولاء أحد. عاش ثائراً ومات ثائراً، تاركاً وراءه سجلاً أبيض يخلو من أي نقطة قد تعكّر صفاءه.

هذه النزاهة ليست تفصيلاً جانبياً؛ فهي ما جعلته رمزاً.

في زمنٍ امتلأ باللاعبين على الحبال، بقي ثابتاً على خطٍّ واحد، واضحاً كوضوح الشمس في رابعة النهار؛ لا يساوم، لا يهادن، ولا يحوّل القضية إلى سُلَّمٍ يصعد به نحو مجده الشخصي.

 

لم يكن جورج حبش مجرّد قائد عسكري أو حزبي. كان مفكراً يرى في الثورات مشاريع طويلة النفس، تحتاج إلى ثقافة بقدر حاجتها إلى بندقية.

كان يردد دائماً أن التحرر لا يصنعه مقاتل جيد فقط، بل يصنعه إنسان واعٍ:

إنسان يعرف لماذا يقاتل، ولمن يقاتل، وماذا يريد أن يبني بعد انتهاء الحرب.

 

كان يحذّر من الانقسامات، من تآكل الوعي، من تحويل القضية الفلسطينية إلى مادة للصراعات الداخلية.

كان يؤمن بوحدة النضال العربي، يرى أن التحرّر من الاستعمار لا ينفصل عن التحرّر من الجهل والفساد.

بعيداً عن السياسة، كان جورج حبش إنساناً عطوفاً، يتعامل مع رفاقه كطبيب يراقب نبضهم.

لم يكن يميل إلى القسوة، رغم أن الظروف كثيراً ما فرضتها.

كان يجلس مع المقاتلين، يسمع قصصهم، يتفقد غياب الذين سقطوا في المعارك، ويشعر بأن كل فقدٍ يصيبه في قلبه مباشرة.

 

هذا الجانب الإنساني هو الذي جعل صورته مدهشة: قائد صارم في الموقف، دافئ في التعامل، حادّ في المبدأ، ولطيف في اليوميات البسيطة.

 

حين رحل جورج حبش عام 2008، لم يخسر الفلسطينيون قائداً فقط، بل خسروا نموذجاً.

خسروا رجلاً يمكن الركون إلى صدقه في الوقت الذي امتلأت فيه الساحة بالتجار والمتكسبين.

خسروا صوتاً كان يذكّر الجميع بأن الثورة ليست مهنة، بل التزاماً وجودياً لا يُفكّ ولا يُباع.

 

ربما يكمن الحزن الأكبر في أننا نفتقد في حاضرنا شخصية تُشبهه.

نفتقد ذاك المزيج النادر من الفكر والعمل، من الأخلاق والصلابة، من العفّة الثورية والجرأة السياسية.

 

إرث جورج حبش ليس فقط في الكتب والخطب، بل في الفكرة التي زرعها في أجيال:

أن الثائر الحقيقي يبدأ بنزاهته قبل سلاحه، وبضميره قبل شعاراته.

أن تحرير الوطن لا يمكن أن يصنعه قائد مشوّه القيم، وأن أعظم المعارك تُدار من دون أن يتلوث الإنسان بوسخ السلطة.

 

جورج حبش لم يكن أسطورة مصنوعة إعلامياً، بل كان حقيقة بشرية مكتملة:

رجلٌ خرج من وجع شعبه، تشكّل من حزنه، وتحوّل إلى أملٍ يمشي على قدمين.

عاش بسيطاً، ومات عظيماً.

أخطأ، وتعلّم، واجتهد، وصمد، لكنه لم يتنازل يوماً عن أن يكون “نظيفاً” في زمن كانت النظافة نفسها فعل مقاومة.

 

يبقى “الحكيم” شاهداً على أن الثورة الحقيقية تحتاج رجالاً من طين الأرض لا من رغوة الخطابات،

ورجالاً يحملون المبادئ لا المناصب،

ورجالاً يشبهون جورج حبش… حتى لو لم يعد يأتي الزمان بمثله.

 

محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

جورج حبش… سيرةُ قائدٍ عصاميٍّ في زمنٍ يزدحمُ بالمُرتزقةِ!

في ذاكرة الحركات الثورية الحديثة، تبقى بعض الأسماء مشعّة كأنّها خرجت من زمنٍ آخر؛ زمنٍ لم تكن فيه السياسة دكانة، ولا المقاومة عنوا… تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير