حينَ يبكِي التُّرابُ: مرثِيّةُ وطنٍ أَثقلتهُ الحُرُوبُ وتخلَّى عنهُ العالمُ!

منذ أسبوع   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

في ليالٍ مثقلةٍ بالدخان، حين تصمت المآذن ويغفو الضوء مذعوراً خلف الغيوم، تبكي الأرض.

تبكي كأمٍّ أنهكها الألم، وكطفلٍ لم يعرف من الدنيا إلّا الخوف.

هناك بين الركام، تنام الحكايات التي لم تكتمل، والأحلام التي وُئدت قبل أن تتنفس، والأسماء التي رحلت ولم يُنادِها أحد.

في كل زاويةٍ حجرٌ يبكي، وفي كل بيتٍ ظلٌّ يبحث عن صاحبه.

 

إلى من ظنّ أنّ المال يُخلِّد، وأنّ الدم إذا سُفك بعيداً لا يعود إليه بعارِه...

إلى الدول التي تحكّمت برقابنا، وأشعلت الحروب في أرضنا، واعتقدت أنّ النار لن تحرق أصابعها...

 

أنتم من دعمتم القتلة، وسلّحتم المحتلين، وموّلتم الانقلابات، وهندسـتم الخراب.

أردتم الشرق رماداً، والغرب واحة أمنٍ ورفاهٍ.

لكن دماء الأطفال لا تجفّ دون وعدٍ بالثأر،

والوطن لا ينسى من باعه، مهما طال الغياب.

 

لقد مزّقتم خرائطنا، وهدمتم مدننا، وقسّمتم ظهور شعوبنا…

بأيديكم، وبأموالكم، وبسياساتكم العمياء، صنعتم هذا الجحيم.

فلا تتوهّموا أنكم ستنجون من نيرانه، فالدخان لا يعرف الحدود، والدم لا ينسى طريق العودة.

 

واعلموا…

أنّ للعدل ميقاتاً، وللحقّ ساعة، وأنّ الله لا ينسى، ولا يترك المظلوم وحيداً.

 

وحين تحين ساعة الحساب، لن تبكي عليكم أمم، بل ستُزَفّ نهايتكم زفّاً، وترتفع الزغاريد فوق أنقاض طغيانكم،

ويُقال: هذا يوم القصاص.

 

اللهم أرِنا فيهم يوماً كيوم عادٍ وثمود،

واجعلهم لعنةً تُروى في كتب التاريخ،

وسُحقاً لمن ظنّ أنّ الله غافلٌ عمّا يفعل الظالمون.

 

غزّة، الفاشر… اسمان حفرا وجهي المأساة على خريطةٍ واحدة، وإن فرّق بينهما البحر والصحراء.

في الأولى، أطفالٌ ينامون على أصوات القصف، وفي الثانية، أرواحٌ تَهيم على وجع النزوح.

كلاهما ينزف بصمتٍ متشابه، كأنّ الحزن توأمٌ يتقاسم الهواء بينهما.

 

تُروى هذه الكلمات كأنّها صلاةٌ باكية، لا تُقال بصوتٍ عالٍ بل تُهمَس في صدر الأرض.

هي ليست بياناً سياسيّاً، ولا خطاباً غاضباً، بل نواحُ إنسانٍ يرى مدينتين تُقتلان كلّ يوم، ويعجز أن يفعل سوى أن يكتب.

 

في الشاشات وجوهٌ يكسوها الغبار، وأعينٌ تبحث عن ملامحٍ اختفت تحت الركام.

هناك طفلٌ في غزّة ينادي أباه فلا يسمعه أحد، وامرأةٌ في الفاشر تمسح عن وجه صغيرها رماد النار، وتهمس: "اصبر... لم يبقَ إلّا الله."

 

أيها العالم، هل تسمع صوت التراب حين يبكي؟

هل ترى المدن حين تنطفئ، والأحلام حين تذوب في العراء؟

الحزن لم يعد خبراً، صار هواءً نتنفسه، وملحاً في عيونٍ لم تعرف سوى الدمع.

 

لكن في هذا الظلام، يظلّ شيءٌ لا يُطفأ: ذاكرة الشعوب.

ذاكرةٌ تحفظ وجوه الضحايا كآياتٍ لا تُمحى، وتروي قصصهم في كل بيتٍ، في كل مساءٍ، في كل قلبٍ لم ينسَ معنى الوطن.

ذاكرةٌ تقول: إنّ العدل، وإن تأخّر، آتٍ لا محالة، وأنّ من أشعل النار، سيذوق رمادها ولو بعد حين.

 

لسنا نكتب لنُجدّد الجرح، بل لنحفظ أسماء الذين رحلوا من النسيان، ولنُذكّر العالم أنّ وراء كل رقمٍ حياة، ووراء كل شهيدٍ قصة، ووراء كل دمعةٍ وطن.

وفي النهاية، لا نملك إلّا الدعاء:

اللهم ارحم من سقطوا، وداوِ من عاشوا، وأزِل عن أرضنا هذا الليل الطويل.

 

غزّة، الفاشر، وكلّ أرضٍ سُلبت منها البسمة، أنتم في القلب، والوجع لكم، والذكرى لكم، والعدالة وعدٌ لا يموت.

 

محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

ياسر علي

تقرير: لقاء شعبي في عين الحلوة يناقش الأزمة التربوية في مدارس الأونروا مشاركون يحذرون من انهيار العملية التعليمية ويدعون إلى تحرك موحَّد

شهد مخيم عين الحلوة لقاءً شعبياً موسعاً، وذلك لمناقشة الأزمة التربوية المتصاعدة داخل مدارس وكالة الأونروا. شارك في اللقاء ممثلون ع… تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير