غزّة... من قصف البيوت إلى قصف الحقيقة!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيتغيّرت ميادين الحرب، ولم تعد البنادق وحدها تُقرّر النصر أو الهزيمة.
اليوم تُخاض المعركة على الوعي، وتُقصف الحقيقة كما تُقصف البيوت في غزّة.
في زمنٍ تُسيطر فيه الخوارزميات على الرؤية، صار الفلسطينيّ يواجه حصاراً مزدوجاً: حصار الأرض... وحصار الرواية.
في أواخر أيلول/سبتمبر 2025، جلس رئيس وزراء كيان الاحتلال أمام مجموعة من المؤثّرين الأجانب، يتحدّث بثقةٍ عن سلاحه الجديد:
"الأسلحة تتغيّر مع الزمن... لا يمكن القتال بالسيوف اليوم، فهذا لا يُجدي نفعاً. أهمّها اليوم هي وسائل التواصل الاجتماعي."
لم تكن تلك الجملة ملاحظةً عابرة، بل إعلاناً صريحاً عن جبهةٍ جديدة من الحرب؛ حربٍ تُخاض بالصورة والكلمة والرواية.
فالمعركة اليوم لم تعد بين جيشٍ ومقاوم، بل بين روايةٍ تُحاصر وخوارزمياتٍ تُوجَّه.
تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي، التي حملت وجع الفلسطينيين إلى العالم، إلى ساحة صراعٍ يُراد السيطرة عليها.
من خلالها يسعى الاحتلال إلى تشويه الشهادة، وتحويل الضحيّة إلى متّهم، والجلّاد إلى "مدافعٍ عن النفس".
في غزّة حيث لا يبقى من البيوت سوى الغبار، وجد الفلسطينيّ في هاتفه نافذته الأخيرة نحو العالم.
لكنّ الاحتلال الذي قصف الحجر والبشر، أراد أيضاً أن يقصف الحقيقة.
بجيوشٍ من الحسابات والمموّلين والمؤثّرين، يُعاد إنتاج الكذب على شكل رواياتٍ مُنمّقة، تُمحى بها مشاهد المجازر، وتُستبدل بسرديةٍ باردة عن "حربٍ متكافئة" و"ردٍّ على الإرهاب".
في غزّة كما في الإعلام، لا يُقتل الفلسطينيّ مرّتين فقط، بل آلاف المرّات، مع كلّ منشورٍ مشوّهٍ وصمتٍ دوليٍّ متواطئ.
في الضفّة حيث لا سلاح سوى الوعي، يُعامل الفكر كخطرٍ، والكلمة كجريمة.
كلّ احتجاجٍ يُوسَم بـ"التحريض"، وكلّ منشورٍ يُراقب وكأنّه عبوةٌ موقوتة.
المنصّات التي وُلدت كفضاءٍ حرٍّ للفلسطينيين، صارت اليوم خاضعةً للرقابة والحظر، بفعل حملاتٍ منظّمةٍ تُريد إسكات كلّ روايةٍ تُدين الاحتلال.
في مخيّمات لبنان وسوريا، وفي مدن أوروبا وأميركا، يعيش الفلسطينيّ حرباً مختلفة: حرباً على الذاكرة.
كلّ حملة تضامنٍ تُتَّهَم بالتحيّز، وكلّ علمٍ فلسطينيّ يُرفع يُتَّهَم بالتطرّف.
تُشوَّه صورة اللاجئ، ويُقدَّم كعبءٍ أو خطر، بينما تُدفن قصّته الأصلية تحت سيلٍ من السرديّات المصطنعة.
التحريض هنا لا يطلق الرصاص، بل يطلق الشكّ.
يشكّك في المعاناة، في شرعية النضال، وفي إنسانية الفلسطينيّ ذاتها.
حين يتباهى رئيس وزراء الاحتلال بأنّ "وسائل التواصل هي أهمّ الأسلحة"، فهو يعترف ضمنيّاً بأنّ الرواية الفلسطينية باتت تؤرّقه أكثر من الصواريخ.
فالصورة التي تخرج من غزّة أقوى من بيانات الجيوش، وصرخة أمٍّ تبحث عن طفلها أبلغ من ألف بيانٍ سياسيّ.
الرواية الصادقة لا تحتاج إلى مؤثّرين ولا إلى غرف عمليات رقمية؛ يكفيها أن تنبض بالحقيقة لتخترق ضجيج التضليل.
من غزّة إلى جنين، ومن مخيّمات الشتات إلى قلوب الأحرار في العالم،
يخوض الفلسطينيّ اليوم حربين في آنٍ واحد:
واحدةً ضدّ القنابل، وأخرى ضدّ الأكاذيب، لكنّ الحقيقة مهما حوصرت لا تُقتل.
فكما لم تُمحَ الذاكرة رغم النكبة، لن تُمحى الرواية رغم الخوارزميات.
سيظلّ الفلسطينيّ يكتب، ويصوّر، ويشهد، لأنّ كلمته قبل بندقيته هي فعل مقاومةٍ لا يُقهر.
اليوم تغيّرت الأسلحة، لكنّ الفلسطينيّ ظلّ هو الهدف...
وهو أيضاً الحقيقة التي لا تموت.
فالوعي لا يُقصف، والكلمة لا تُهزم.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.






أضف تعليق
قواعد المشاركة