الشجاعة في غزة.. حين يصبح الخوف رفيقاً لا يفارق!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي غزة لا تُشرق الشمس كما في سائر المدن، بل تأتي مثقلة بالدخان ورائحة البارود، وتتعثر خطوات النهار بين أنقاض البيوت المهدمة. هناك لا يقاس الوقت بالساعات، بل بعدد الغارات، بعدد الجثامين التي تُشيّع، بعدد الدموع التي لا تجد كتفاً لتستريح عليه. غزة ليست مجرد مكان على خارطةٍ تاهت بين الأخبار، إنها جرح مفتوح على العالم، ينزف كل يوم، ومع ذلك ما زال نابضاً بالحياة.
قال مانديلا: "تعلمت أن الشجاعة ليست غياب الخوف، بل الانتصار عليه"، وكأنما كان يصف قلوباً تقف اليوم في غزة، حيث يتربص الموت عند كل باب، وحيث الخوف لا يغيب لحظة واحدة. الخوف من قذيفة تهوي، من خبر استشهاد عزيز، من فقدان مأوى أو بقاء جثة طفل تحت الركام بلا وداع.
وفي غزة لا أحد يمكنه الادعاء أنه لا يخاف. الأطفال يخافون من صوت الانفجارات، الأمهات يخشين أن يضيع أبناؤهن في ثانية، والآباء يخافون من العجز أكثر من الخوف ذاته. ومع ذلك يبقون واقفين. وهذا ما قصده نيل جايمان حين قال: "الشجاعة لا تعني أنك لست خائفاً، الشجاعة معناها أن تكون خائفاً جداً، لكنك تفعل الصواب رغم ذلك".
في غزة الشجاعة ليست صورة بطولية تلمع في نشرات الأخبار، بل هي تفاصيل صغيرة يومية:
حين تخبز أم الخبز تحت القصف كي لا ينام أطفالها جائعين.
حين يحمل أب جثمان طفله الصغير بين ذراعيه ويمضي به إلى قبره، دون أن ينكسر صوته أمام بقية أطفاله.
حين يضحك طفل وسط الركام لأنه وجد كرة ممزقة ما زالت تصلح للركل.
حين يرفع الناس الأذان بين الأطلال وكأن الحياة لم تُمحَ.
الخوف هناك ليس عاراً، بل دليلاً على أنهم بشر من لحم ودم، لكن ما يجعلهم أبطالاً حقاً هو أن هذا الخوف لا يشلهم، بل يرافقهم، ويشد على أعصابهم، ثم يتركونه خلفهم ليفعلوا ما يجب فعله: الصمود.
غزة اليوم تعطي معنى آخر للشجاعة، شجاعة ليست اختياراً، بل قدراً مفروضاً. شجاعة أن تبقى حيّاً رغم أن الموت يحيط بك، أن تحلم رغم أن الحلم صار جريمة، أن تحب رغم أن الرحيل صار أقرب من كل شيء.
هكذا تصبح كلمات مانديلا وجايمان مرآة تعكس وجوه الغزيين، وجوهاً متعبة، دامعة، لكنها لا تزال تقول:
"نحن نخاف، نعم، لكننا لا ننكسر."
قد يظن العالم أن غزة مدينة محاصرة، ضعيفة، مكسورة، لكن الحقيقة أنها مدرسة للشجاعة، تعلّمنا أن البطولة ليست غياب الخوف، بل القدرة على مواجهته، على السير إلى الأمام رغم الخوف.
غزة لا تخلو من الدموع، لكنها أيضاً لا تخلو من الأمل. لا يخلو ليلها من أصوات الانفجارات، لكنه لا يخلو من أصوات الأذان والدعاء.
هناك بين الركام، يولد معنى جديد للشجاعة.. معنى لا يكتبه التاريخ في سطور باردة، بل يكتبه الأطفال بضحكات قصيرة وسط الخراب، والأمهات بصبر يشبه المعجزات، والرجال بخطوات ثابتة في مواجهة المجهول.
غزة تقول للعالم:
"لسنا أبطالاً لأننا لا نخاف.. بل لأننا رغم خوفنا، نواصل الحياة."
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.



أضف تعليق
قواعد المشاركة