غريتا... ضميرٌ يبحر نحو غزة حين خذلها العالم!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي زمنٍ غابت فيه الأصوات الحُرّة، وتلعثمت الحناجر العربية بين الخوف والمصالح، خرج صوتٌ من أقصى شمال الأرض، من بلاد الثلج والرفاه، يحمل دفءَ إنسانيةٍ لم تعد تُرى إلا نادراً.
إنها غريتا ثونبرغ، الناشطة البيئية السويدية الشابة، التي آثرت أن تترك بيوت الفنّ والثراء، لتُبحر نحو شواطئ غزة، تحمل على كتفيها علماً لا يخصّ جنسها ولا دينها، بل يخصّ الإنسان وحده.
تمَّ احتجازها في سجن النقب بعد أن تمَّ اختطافها من المياه الإقليمية، إثر رحلةٍ بحريةٍ حاولت من خلالها كسر الحصار المفروض على القطاع. عاملوها بقسوة، وحرموها من الطعام، وتُركت في زنزانةٍ قذرةٍ، لأنها ببساطة رفضت أن تصمت، ورفضت أن توقّع على تعهّدٍ بعدم العودة إلى البحر.
لكن خلف هذا المشهد القاسي، يولد مشهدٌ آخر من الفخر. فهذه الفتاة التي لم تعرف غزة إلا عبر الأخبار والصور، آمنت أن الإنسانية لا تُحدّدها الجغرافيا ولا اللغة، وأن الصمت في وجه الظلم جريمة.
هي لا تحمل سلاحاً، ولا تنتمي إلى حزب، لكنها تحمل قلباً أقوى من الجيوش، ضميراً يجلد العالم بصمته، وصوتاً يُذكّر بأن في الأرض ما زال من يقف حين ينحني الآخرون.
من السويد إلى شواطئ المتوسط، حملت غريتا رسالتها: أن البيئة لا تُفصل عن الإنسان، وأن العدالة لا تكتمل إن غاب عنها صوت المظلوم. وعندما أعلنت تضامنها مع غزة، ونددت بجرائم الاحتلال، شنّ عليها الإعلام الغربي حملات تشويه، واتهموها بالتطرّف والانحياز، لكنها لم تتراجع.
قالت يوماً: «حين تصمت الإنسانية أمام المجازر، يصبح الصمت جريمة.»
ذلك الموقف الصغير في ظاهره، العظيم في أثره، أعاد التذكير بأن الشجاعة ليست في القوة، بل في الموقف، وأن الحرية لا تحتاج سلاحاً، بل تحتاج قلباً لا يعرف الخوف.
في عالمٍ عربيٍ مثخنٍ بالصمت الرسمي، تخرج فتاةٌ من السويد لتقول ما عجزت عنه منابرنا: إن غزة ليست رقماً في نشرة الأخبار، بل جرحٌ مفتوح في ضمير البشرية.
وفي وقتٍ انشغل فيه كثيرون بالمجاملات السياسية، خرجت هي لتقول: «سأذهب بنفسي.» فذهبت... ودفعت الثمن.
إنها صورة تُحرجنا جميعاً. فحين تتقدّم فتاةٌ في الثانية والعشرين لتدافع عن أطفالٍ لا تعرف أسماءهم، بينما تتراجع شعوبٌ بأكملها عن كلمة الحق، علينا أن نسأل: من بقي إنساناً في هذا العالم؟
قد يُسجن الجسد، لكن الفكرة لا تُسجن. وإن حُوصرت غريتا في زنزانة، فإن صورتها اليوم تعبر المحيطات، وتعيد إلى الوعي العالمي معنى التضامن الإنساني الحقيقي.
إن ما فعلته لم يكن بدافع الدين ولا السياسة، بل بدافع الفطرة: تلك التي خنقها الخوف في صدور كثيرين، وأيقظتها في قلب فتاةٍ واحدة.
التاريخ لا ينسى، سيسجّل أن فتاةً من الشمال البعيد وقفت يوماً إلى جانب شعبٍ محاصرٍ في الجنوب.
سيسجّل أنها اختارت الكرامة على القصور، والحق على الراحة، والحرية على الصمت.
أما نحن — أبناء هذه الأرض — فربما حان الوقت لنسأل أنفسنا:
هل سنبقى شهوداً صامتين بينما الغرباء يدافعون عنّا؟
أم سنعيد لأنفسنا صوتنا وضميرنا الذي ضاع بين الخوف واللامبالاة؟
لأن التضامن مع غزة ليس موقفاً سياسياً...
بل اختبارٌ لإنسانيتنا جميعاً.
■ بطاقة تعريفية:
الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ (Greta Thunberg) تُعَدّ واحدةً من أبرز الوجوه في مجال حماية البيئة ومكافحة تغيّر المناخ في العالم.
● الاسم الكامل: غريتا تينتين إلين إيرمان ثونبرغ (Greta Tintin Eleonora Ernman Thunberg)
● الجنسية: سويدية
● تاريخ الميلاد: 3 يناير 2003
● مكان الميلاد: ستوكهولم، السويد
■ بدايتها ونشاطها
في عام 2018، عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها، بدأت غريتا إضراباً مدرسياً من أجل المناخ، إذ جلست أمام البرلمان السويدي مطالِبةً حكومتها باتخاذ إجراءات جديّة ضدّ التغيّر المناخي.
كانت تحمل لافتة كُتب عليها: "إضراب مدرسي من أجل المناخ" (Skolstrejk för klimatet).
تحوّلت هذه المبادرة الصغيرة إلى حركة عالمية عُرفت باسم "Fridays for Future" (أيام الجمعة من أجل المستقبل)، شارك فيها ملايين الطلاب حول العالم.
■ إنجازاتها وتأثيرها
▪︎ألهمت جيلاً جديداً من الشباب للمطالبة بالعدالة البيئية.
▪︎ألقت خطابات مؤثرة في مؤتمرات دولية، أبرزها قمة العمل المناخي للأمم المتحدة عام 2019، حيث قالت عبارتها الشهيرة:
"كيف تجرؤون!" (How dare you!)
▪︎رُشّحت لجائزة نوبل للسلام عدة مرات.
▪︎اختيرت شخصية العام 2019 من قبل مجلة Time.
■مواقفها
تنتقد غريتا بشدّة ما تصفه بـ"الكلام الفارغ" من قادة العالم، وتدعو إلى اتخاذ إجراءات ملموسة، مثل خفض انبعاثات الكربون فوراً ووقف الاعتماد على الوقود الأحفوري.
كما ترفض السفر بالطائرة، مفضّلةً استخدام القطارات أو القوارب في تنقّلاتها الطويلة.
*محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة