يوميّات من القلب... حين يتحوّل الألم إلى إبداع!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي زمنٍ يختنق فيه الصوت بين الركام، يولد صوتٌ شعبيٌّ بسيط، لكنه صادق؛ نقيٌّ كدمعةِ أمٍّ، وناصعٌ كأملِ طفلٍ بين خيام النزوح. ذلك الصوت هو صوتُ المبدعين الذين اختاروا الكلمة والكاميرا سلاحاً في وجه الصمت، ليكتبوا للتاريخ بقلوبهم لا بأقلامهم.
ومن بين هؤلاء يبرز (أبو سمير)، الذي لم يكن مجرّد راوٍ للحكاية، بل كان هو الحكاية نفسها. كان وجعَ الناس على لسانه، وأملَهم في عينيه، وابتسامتَهم التي تصرّ أن تبقى حيّة رغم الألم.
من بين الركام كان (أبو سمير) يخاطبنا، ومن تحت القصف كان يخاطبنا؛ صوته يعلو فوق هدير الطائرات، يحمل إلينا ما تبقّى من أنين الأرض وكرامة الإنسان، يزرع في قلوبنا ما لم تستطع نشرات الأخبار أن توصله من حقيقةٍ ووجعٍ وصدق.
في زمن الحرب، حين غابت العدسات الكبرى ونام الإعلام الرسمي عن مآسي البشر، ظلّ (أبو سمير) يقف بين الخيام، يدوّن تفاصيل اليوم العادي، يلتقط نبض البسطاء، ويحوّل الحزن إلى حكايةٍ يعيشها كل بيت. بصوته الشعبي، وبلغته القريبة من القلب، استطاع أن يختصر وجع وطنٍ بأكمله في مشهدٍ واحد، في ضحكةِ طفلٍ أو تنهيدةِ عجوز.
ما فعله (أبو سمير) ليس مجرّد توثيقٍ للمعاناة، بل هو حفظٌ للذاكرة، وأرشيفٌ نابضٌ بالإنسانيّة، يسجّل للحاضر وللأجيال القادمة أن الإبداع الحقيقي يولد من رحم الألم. فكلُّ مقطعٍ صوّره كان جسراً بين المأساة والكرامة، بين الحزن والفخر، بين الجرح والنجاة.
إنّ مبدعينا الشعبيين أمثال (أبو سمير) لا يملكون أدواتِ الإعلام الضخم، ولا تقنياتِ الإنتاج، لكنهم يملكون ما هو أعمق: الصدق، والروح، والقدرة على أن يجعلوا العالمَ يشعر بما نشعر به نحن. إنهم يرفعون رؤوسنا عالياً، لأنهم اختاروا أن يكونوا صدىً للوجع لا صدىً للسلطة، وأن يحملوا حكاياتِ الناس لا شعاراتِهم.
ففي كلّ يوميّةٍ يقدّمها، كان (أبو سمير) يزرع فينا شيئاً من الإيمان: أن المأساة يمكن أن تتحوّل إلى رسالة، وأن الألم يمكن أن يكون طريقاً نحو وعيٍ أعمق بالإنسان، وأن البساطة حين تمتزج بالصدق تُصبح أقوى من كل خطابٍ رسميّ.
سلامٌ على كل مبدعٍ يشبه أبا سمير، على من جعلوا من حروفهم ولقطاتهم جسوراً بين الألم والكرامة. سلامٌ على الأصوات التي لا تملك سوى الحقيقة، لكنها تصل إلى كل بيتٍ لأنها خرجت من القلب، ولأنها نابعة من وجدانٍ لا يُشترى ولا يُقمع.
سلاماً على (أبو سمير)، وعلى أمثال (أبو سمير)...
أولئك الذين علّمونا أن الكلمة يمكن أن تُقاتل، وأن الصورة يمكن أن تُبقي الذاكرة حيّة، وأن البساطة حين تمتزج بالصدق، تصنع مجداً لا يُنسى.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة