فاطمة البُديري… المرأة التي جعلت الأثير جبهةً للمقاومة
محمود كلّم
كاتب فلسطينيلم يكن حضور المرأة الفلسطينية في مسيرة النضال مقتصراً على ساحات المواجهة أو مواقع العمل الاجتماعي فحسب، بل امتدّ إلى فضاءات أعمق وأكثر أثراً، وفي مقدمتها الإعلام. ولعلّ تجربة فاطمة البُديري، ابنة القدس المولودة عام 1923، تظلّ واحدةً من العلامات الفارقة في تاريخ الإعلام الفلسطيني والعربي؛ إذ ارتبط اسمها بكونها أوّل مذيعة فلسطينية يصدح صوتها عبر أثير إذاعة "هنا القدس"، وأوّل امرأة تتولّى قراءة نشرة الأخبار أمام جمهور واسع من المستمعين.
في زمنٍ كانت فيه التقاليد الاجتماعية تُقيّد المرأة وتُحاصر حضورها في المجال العام، اقتحمت فاطمة البُديري المجال الإذاعي بجرأة وثقة، فكَسرت الحواجز المرسومة أمام المرأة الفلسطينية. جلست وراء الميكروفون لتخاطب العالم، ليس فقط بصوتها الواثق، بل بروحها التي حملت رسالة وطنٍ يواجه الاستعمار والتهجير. لقد شكّل ظهورها على أثير إذاعة "هنا القدس" في أربعينيات القرن الماضي دلالة رمزية على أنّ المرأة الفلسطينية ليست متلقيةً للأحداث فحسب، بل صانعةً وناقلةً للوعي الجمعي.
بدأت فاطمة مسيرتها في التعليم، ثم انتقلت إلى الإعلام حيث قدّمت برامج ثقافية ونشرات أخبار حتى عام النكبة 1948. وبعدها عملت في الإذاعة السورية (1950–1952) ثم الأردنية (1952–1957)، كما شاركت مع زوجها في الإذاعة الألمانية الديمقراطية ببرلين (1958–1965). وإلى جانب عملها الإعلامي، انخرطت في التعليم وأدارت مكتبات في رام الله وعَمّان، ثم التحقت بمكتبة الجامعة الأردنية. أما آخر محطّاتها فكانت في الدار الأردنية للثقافة والإعلام بالعاصمة عمّان، حيث واصلت رسالتها حتى رحيلها عام 2009، تاركةً إرثاً إعلامياً وإنسانياً يمتدّ لأكثر من ستة عقود.
إنّ تجربة فاطمة البُديري لا تُقرأ بمعزل عن السياق الأوسع لدور المرأة الفلسطينية في معركة التحرر الوطني؛ فقد أسهمت النساء في التعليم، والتمريض، والكفاح المسلّح، والنشاط الاجتماعي، ليكنَّ شريكاتٍ حقيقيات في رسم الهوية الوطنية. ويكتسب صوت البُديري خصوصيته من كونه فتح الباب أمام حضور المرأة الفلسطينية في الإعلام، ليس كعنصر مكمّل، بل كقائدة للرأي العام وناقلة لرسائل الحرية والكرامة.
رحلت فاطمة البُديري جسداً، لكن صوتها ظلّ حاضراً في الذاكرة الفلسطينية والعربية، رمزاً لإصرار المرأة على انتزاع مكانتها ودورها رغم قسوة الظروف. لقد جسّدت أن الإعلام الفلسطيني لم يكن مجرّد وسيلة للتواصل، بل جبهةً من جبهات المقاومة، ومن خلال صوتها عبّرت عن وطنٍ مغتصب، وحُلمٍ لم ينطفئ، ونضالٍ لم ينكسر.
[محمود كلّم] كاتبٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنَين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.


أضف تعليق
قواعد المشاركة