نزار بنات... حين قال "لا" ونام في تراب الوطن!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي زوايا الذاكرة المتعبة، يقف ظل نزار بنات شامخاً كجبل الخليل، حنوناً كنسيم الهفوف، غائباً جسداً، حاضراً روحاً لا تنطفئ.
كانت الرحلة الأولى في أوائل الثمانينيات، سنة 1984، حين حملت العائلة أحلامها ووجعها الفلسطيني من مدينة الخليل إلى منطقة الهفوف والأحساء شرق السعودية. كان الطريق طويلاً، لكن نزار الصغير لم يكن يرى المسافات، بل كان مشغولاً بالدهشة، يحدّق في النخيل الراكع لصلاة الشمس، وفي الغرباء الذين سيصبحون أهلًا بعد حين.
في مدرسة تحفيظ القرآن في الهفوف، كان نزار يجلس في الصفوف الأولى، يحبّ اللغة العربية كأنّها وطن جديد، يكتب بخطّ أنيق، ويضحك بخجل حين يخطئ في التجويد. وكان هناك أستاذ يمنيّ، يجلّه، ويقول له دائماً: "أنت ابن فلسطين، وفلسطين أمّ اللغة."
كان نزار يعشق هذا الأستاذ، ويقول دائماً: "اليمنيون يشبهوننا، يحبّون الأرض، ويحترمون الكلمة." ومنذ تلك الأيام، بدأ حبّه لليمن ينمو في صمت، حبّاً بلا حدود، ولا مصالح.
في أحد الأيام، شبّ حريق في بيت أهله في الهفوف. كانت اللحظات مرعبة، والدخان يعلو، والأم تبكي، حتى جاء شاب يمنيّ لا يعرفهم، وأطفأ الحريق.
في سنة 1990، حصل نزار على شريط لحفلة "فرقة العاشقين" في اليمن. كان يسمعه في المساء، ويغنّي بصوت خافت:
"اشهد يا عالم علينا وعا بيروت..."
ثم يُغمض عينيه، ويضع رأسه على الوسادة، ويهمس: "بيروت والخليل... قلبي هناك."
ضحكه في تلك الليالي، دموعه المختبئة في الوسائد، وروحه التي ظلّت مشدودة نحو فلسطين... كلّها أشياء لا تموت.
في مكتبة البيت، كانت رفوف نزار مليئة بكتب عن تاريخ وعادات وتقاليد اليمن، وكتب طبخ يمنية كان يقرؤها كما يُقرأ الشعر.
هكذا كان نزار: بروحه في اليمن، وجسده في السعودية، وأحلامه في الخليل.
في الهفوف، كان يركض بين النخيل،
يصنع من الطين جنوداً، ويحلم بغدٍ يُشرق بالحرية.
وفي الخليل، حين كان يعود في الصيف، كان يركض نحو البيت، يُقبّل الباب، ويجلس على عتبة الدار كمن وجد وطناً في الحجارة.
في ليلة من ليالي الخليل، قال: "إن متُّ، ادفنوني هون... بين الزيتون."
وها قد صدقت كلماته، ومات في حضن الوطن، مغدوراً، لا من الأعداء… بل ممّن ادّعوا الأخوّة.
نزار لم يمت، بل قُتل...
قُتل لأنّه قال الحقيقة، لأنّه لم يصمت، لأنّه حمل روحه على كفّه وقال "لا".
نزار لم يكن مجرّد شخص…
كان ذاكرة، ووطناً متنقلاً، وحكاية بدأت في فلسطين، ونُثرت رماداً في المنافي... لكنها لن تنتهي.
ما أقسى أن يموت الإنسان، لا برصاص عدوٍّ يُعرَف، بل بأيدٍ تتكلّم لغتك، وتلبس ملامحك، وتدّعي أنّك منها.
نزار لم يرحل وحده، بل أخذ جزءاً من الخليل، من الهفوف، من دفء الطفولة، وضحكة المساء.
ومنذ ذلك اليوم، لم تعد الأشياء كما كانت...
ذاك الطفل الذي ركض بين النخيل، والذي قال "لا" في وجه الظلم، سقط شهيداً.
لكنّ صوته باقٍ، كأنّه دعاء، كأنّه قصيدة مكسورة لا تنتهي.
يا نزار... لم يبقَ فينا إلا الحنين،
ولم يبقَ لنا منك إلا وجعٌ لا يُشفى.
لن نخذلك يا شهيدنا!
[محمود كلّم] كاتبٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنَين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة