أحمد مرعي ناصر... شاعر الأرض الذي حملتهُ الرّياحُ إِلى سعسع!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي 30 آذار 1997، كتب الشاعر أحمد مرعي ناصر قصيدته الأخيرة، وكأنه كان يستعدّ لوداع الحياة، لا بالكلمات فحسب، بل بالحنين الذي لا يذبل. لم يكن شاعراً عابراً، بل ابن الأرض، شاعر سعسع، الذي حملته الرياح في الخيال إلى تلالها، حين عجز الجسد عن العودة.
قصيدته لم تكن نصّاً عاطفيّاً فقط، بل وصيّة كاملة من شاعر منفيّ، يطلب من وطنه السماح، ويضع قلبه على حجر الجرن، وينثر أشواقه على تين الدار وزعرورها. كتبها ليقول: "أنا ما تركتك بمحض اختياري… وأنا آتٍ إليكِ، فاعذريني."
"يا ليتكِ يا رياح بتحمليني…
عَ تلة قرب سعسع تنزليني…"
منذ البيت الأول، ينادي الشاعر الرياح لا كعنصر طبيعي، بل كوسيلة خلاص. يريد أن يُحمَل لا إلى عالم جديد، بل إلى تلة قرب سعسع، كأن مجرد الاقتراب من ظلالها يُخفف وطأة الغربة. لم يطلب العودة إلى بيت، أو طريق، أو حضن… طلب فقط "التلة" — المكان العالي الذي يرى منه البلاد، ولو من بعيد.
"ت أشوف بأرضي إيش جاري..
بعد هجرة طويلة من السنينِ"
رغبته بسيطة، لكنها مأساوية: أن يرى ما جرى، فقط ليرى. فهو لم يكن حاضراً عندما تغيّرت الجغرافيا، وتبدّلت الأسماء، وجُرِفت الحقول، واندثرت الحجارة. الهجرة لم تكن قراراً، بل انفصالاً عن الزمن، فظل الشاعر عالقاً في ذاكرة 1948، يحاول أن يصل إلى واقع لم يُسمح له أن يشهده.
"أرى عداثر جاثماً عن يساري..
والجرمق شامخاً عن يميني..
وعيوني شايحة عَ حجار داري…"
ما بين الجبلين، عداثر والجرمق، هناك مساحة كان اسمها الوطن. و"حجار داري" ليست مجرد حجارة، بل الذاكرة المتجسّدة في الحجر والتراب والعرق. يقول: "شايحة"، وهي كلمة تحمل شوقاً حادّاً، وكأن العين امتدّت حتى انفرجت على المدى لتتعلق بأملٍ بعيد، لا يُرى.
"أناديكِ يا بلادي سامحيني..
أنا ما تركتك بمحض اختياري.
وأنا آتٍ إليكِ، فاعذريني..
وضروري تقبلي مني اعتذاري.."
هذا المقطع من أكثر ما كُتب فلسطينيّاً وجعاً وصفاءً. لم يطلب من الأرض شيئاً سوى أن تسامحه. لم يغادر مختاراً، لكنه يشعر بالذنب، كأن في بقائه بعيداً خيانة، رغم أنه الضحية. اللغة هنا عفوية، صادقة، تفيض ألماً وانكساراً. فهو لا يعود منتصراً، بل منفيّاً، مطأطئ الرأس أمام تراب وطنه.
من ترابك كوز تينٍ… لا يُقدَّر بثمن
"على حبك عم بربي بنيني..
ومهما وصل لإيدي مصاري..
ما بيسوى من ترابك كوز تينِ"
ما من شاعر فلسطيني إلا وأدرك أن قيمة الوطن لا تُقاس بالذهب ولا المال. فـ"كوز التين" — رمز الأرض والخير الطبيعي — أهم عنده من كل المال الذي قد يحصل عليه في الغربة. المعادلة التي يطرحها الشاعر هي: حب الأرض مقابل كل شيء. وكل شيء لا يساوي شيئاً أمام "ترابك" يا فلسطين.
"وزعرورك الأحمر عَ اصفراري..
منه الدم جاري بشراييني.."
الزعرور هنا ليس فقط شجرة، بل وطن بيولوجي. اللون الأحمر رمزية للدم، والدم في هذا النص ليس مجرد عاطفة، بل صلة قرابة ترابية — فالوطن يسري في العروق كما يسري الدم في الشرايين.
"ومهما شمخ بالغربة عماري..
بيظل للكهف بسعسع حنيني..
وعودي تجولي بتلك البراري…
وبدربك عَ خِلّال سُبيع مُرّي..
وهناك بجانب الجرن ادفنيني.."
هنا يبلغ النص قمّته الإنسانية. فالشاعر، رغم حياته الطويلة في المنفى، يريد أن يُدفن في سعسع، لا بجوار بيت فخم، بل بجانب "الجرن" — رمز الفقر والريف والطفولة والكرامة. الحنين لا يُوجَّه فقط إلى بلدة، بل إلى رائحة طريق، وذاكرة براري، وماء "خِلّال سُبيع"، حيث الطفولة والشباب والانتماء.
كتب أحمد مرعي ناصر هذه القصيدة قبل ثلاث سنوات من وفاته، وكأنه كان يختتم بها سيرة طويلة من الغربة والوجع والصبر. لم يكن شاعر منفى عاديّاً، بل شاعر وطنٍ خُلع من قلبه، وطُعن في ذاكرته. كان يعرف أن العودة قد لا تُتاح، فحمّل قصيدته كل ما تبقّى من روحه.
وإن لم تُحمله الرياح فعليّاً إلى تلة في سعسع، فقد حملته كلماته.
وإن لم يُدفن بجانب الجرن كما تمنى، فقصيدته دفنته هناك معنًى ورمزاً، وستظل الريح تمر من فوق "خِلّال سُبيع"، حاملةً همساً جديداً يقول:
"يا ليتكِ يا رياح بتحمليني…
عَ تلة قرب سعسع تنزليني…"
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.


أضف تعليق
قواعد المشاركة