غسّان كنفاني وناجي العلي: حين يكتُبُ الحبرُ والدّمُ تاريخنا!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي زاروبٍ من زواريب مخيّم عين الحلوة، التقى الفن بالكلمة، والتقت الريشة بالثورة.
في الجنوب المحاصر بالحكايات والحنين، التقى غسّان كنفاني بالفنّان الشاب ناجي العلي، ولم يكن يدري أن ما جمعه القدر في تلك اللحظة العابرة، سيصبح لاحقاً جزءاً خالداً من ذاكرة فلسطين.
نشر غسّان كنفاني عن ناجي العلي أول مقالة حملت عنوان: "ينتظر أن نأتي"، في العدد 88 من مجلة "الحرية" التي كانت تصدر عن حركة القوميين العرب، بتاريخ 25 أيلول 1961.
لم تكن مجرّد كلمات، بل كانت إشراقة أولى لفنّان سيُلهب الضمير العربي، وينحت وجع المخيم على جدران العالم.
غسّان لم يكتب عن ناجي فحسب، بل عرّف به أمّةً بأكملها، ونشر له أربع رسومات.
من بين تلك الرسومات برزت "رسمة الخيمة" الشهيرة، التي لم تُنشر بعد ذلك في أي مطبوعة، بل بقيت طيّ الكتمان لعقود، حتى ظهرت لأوّل مرة في كتاب "ناجي العلي: من أجل هذا قتلوني" لمؤلفه محمود عبد الله كلّم، الصادر عن دار بيسان – بيروت، عام 2001.
تلك الخيمة لم تكن مجرّد رسم، بل شهادة ميلاد للحقيقة، ومأوى لذاكرة اللاجئين، وصورة صامتة تصرخ بالحق والكرامة.
لكن حين نكتب عن غسّان كنفاني وناجي العلي، فنحن لا نكتب عن الموتى.
إننا نكتب عن الحياة التي قاتلت لأجلنا وماتت لأجل أن نعيش أحراراً.
نكتب عن القامات التي لم تنحنِ يوماً، عن الشهداء الذين لم يغادرونا، بل سكنوا فينا... صاروا في القلب، وفي الوعي، وفي الموقف.
غسّان لم يكن كاتباً فقط، بل كان طلقة من نوعٍ آخر.
كانت كلمته بندقيته، وكان دمه صرخة للثوار.
وحين اغتيل في الحازمية يوم 8 تموز عام 1972، لم يُرِد جسده أن يسقط وحده، بل أسقط معهم قناع الخوف، ورفع فينا راية العزيمة.
دمه الذي تناثر على الإسفلت، لم يكن دماً عابراً، بل كان بدايةً جديدة لحكاية لم تنتهِ، ولن تنتهي.
أما ناجي العلي، فكان رسّام المخيّم، واللاجئ الذي لم تغادره الخيمة.
في كل خطٍ من ريشته، وجعٌ وفكرة، وفي كل شخصيةٍ رسمها، مرآةٌ لوطنٍ مصلوبٍ على جدار النسيان.
اغتيل ناجي العلي، بعد غسّان كنفاني بسنوات، وكأنّ القاتل ذاته ظلّ يطارد الضوء في عيوننا.
فمن أرادوا تغييبهم عن المشهد، صنعوا لهم مشهداً خالداً لا يموت.
ومن حاولوا كتم أصواتهم، جعلوها أكثر حضوراً فينا.
في حضرة الشهداء، لا نملك إلّا أن ننحني، لا من انكسار، بل من فخرٍ لا يُحتمل.
هم لم يكونوا مجرّد أرقامٍ تُضاف إلى قوائم الموت، بل كانوا عناوين الكرامة، وعَصَب الوعي، وذخيرة الذاكرة.
لقد سُفكت دماء غسّان وناجي، كما سُفكت دماء آلاف الشهداء، لا لتذبل الحياة، بل لتورق فينا العزّة والكرامة.
في كل قطرة دمٍ سالت، صفعةٌ على وجه الاحتلال، ووصيّة بأننا لا ننسى، ولا نستكين، ولا نُهزم.
نُغلق هذا المقال، لكننا لا نغلق الحديث عن غسّان، ولا عن ناجي، ولا عن كلّ من مشى على دربهم.
هم وصيّتنا، وهم رسالتنا، أن نكتب كما كتبوا: بالدم، أن نرسم كما رسموا: بالألم، وأن نحيا كما عاشوا: بالكرامة.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.


أضف تعليق
قواعد المشاركة