غزّة... وأبو الحن في فخِّ المُساعدات!

منذ أسبوعين   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

عندما كنتُ طفلاً صغيراً، كنتُ مولعاً بصيد العصافير، وكان عصفور "أبو الحن" أكثرها سذاجةً وسلاماً، لا يقاوم دودةً وضعتُها له في فخٍّ صنعته بيدي. كنتُ أنصب الفخّ في صمت، أتنفّس بهدوء، وأراقب من خلف الأشجار ومن بين الأعشاب، وما إن يغطّ المسكين إلى الطُعم، حتى يُطبق عليه الفخّ بلا رحمة. كانت تلك هوايةً طفوليةً أتباهى بها أمام أصدقائي. أمّا "عصفور الدوري"، فكان منكحاً، صعباً، لا ينخدع بسهولة، ولا يأكل من يدٍ لا يثق بها.

 

مرّت السنوات، وكبرتُ، وكبر معي الشعور بالذنب. ذات يوم، وأنا أطعم الطيور في شرفتي، شعرتُ أنني أعتذر لتلك الكائنات التي خدعتُها يوماً باسم التسلية. أدركتُ أن الطُعم لم يكن عطاءً، بل خديعةً مميتة.

 

اليوم، وأنا أتابع ما يجري في غزة، يعود إليّ مشهد "أبو الحن" وهو عالقٌ في فخٍّ من صُنع طفل لا يعرف ما يفعل. لكن غزة لا يصطادها أطفال. إنها تُطارد بفخاخٍ مدروسة، موضوعةٍ بدقة، باسم "المساعدات الإنسانية".

 

تصل المساعدات الأميركية إلى غزة، فتُقدَّم للعالم على أنها عملٌ نبيل، وواجبٌ أخلاقي. عُلب الطعام تأتي في شاحناتٍ تحت عيون الطائرات المُسيّرة، والنتيجة غالباً واحدة: شهداء جُدد على أبواب الكيس الأبيض.

 

ما الفرق بين تلك الدودة الصغيرة التي وضعتُها في الفخّ لطائرٍ صغير، وبين "المساعدات" التي تُرمى لشعبٍ جائعٍ ومحاصر؟ كلاهما طُعم، وكلاهما وعدٌ بالحياة ينتهي بمصيدة. الفرق الوحيد أنني كنتُ طفلاً لا يفقه ما يفعل، أما هم، فبالغون يعرفون تماماً أن غزة ليست جائعةً فحسب، بل مستهدفةٌ في روحها وكرامتها وصمودها.

 

المساعدات التي تُقدَّم على وقع التصريحات الدبلوماسية الأميركية ليست بريئة. ليست فعل رحمة، بل أداة ضغط، ووسيلةً لإدامة الحصار وتطبيع الجوع. في كل مرة تُلقى فيها شحنة، تُسحب معها ورقةُ ضغطٍ جديدة: لا تتحدثوا عن وقف إطلاق النار، لا تقتربوا من المحكمة الجنائية الدولية، لا تُحمّلوا الاحتلال المسؤولية.

 

في كل كيس طحين أميركي، فخٌّ خفيّ: إمّا أن تأخذ وتموت صامتاً، أو ترفض وتُعاقب أكثر.

 

ما تحتاجه غزة ليس الطُعم، بل الحياة. ليس المساعدات، بل الكرامة. ليس الأكياس، بل رفع الحصار، ووقف القتل، وحرية الحركة، وقرارٌ سياسي يُعامِل الفلسطيني كإنسان، لا كعصفورٍ في شِباك.

 

لقد غفرت لي العصافير في يومٍ ما. أما غزة، فلن تغفر، إلا عندما تُكسر الفخاخ، وتُفتح المعابر، وتُحاكم الأيدي التي نصبتها باسم الإنسانية.

 

[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.



مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

بيان نويهض الحوت تلتحق بشفيق وأنيس... ويصمت صوت الحقيقة

برحيل الدكتورة بيان نويهض الحوت، يُطوى فصلٌ ناصعٌ من تاريخ النضال الفلسطيني الثقافي والفكري. فقدت فلسطين اليوم امرأة كانت في آنٍ و… تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير