من العدس إلى الشّهادة... الشهيد نزار بنات كما لم تعرفُوهُ!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيلم يكن الشهيد نزار بنات مجرّد ناشط سياسي ومعارض شرس، بل كان رجلاً استثنائياً في تفاصيله الصغيرة، بنكاته التي تُشبه الناس البسطاء، وبـ"نهفاته" التي تحوّلت، بعد رحيله، إلى شهادات حياة من نوعٍ آخر.
بين العدس والبسبوسة، وبين القرعة المحشوة والكلمات الثقيلة، صنع نزار بنات مساحة ضوء في عتمة السياسة الفلسطينية.
خلال فترة التحضير لانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، اتصل نزار وتحدّث إلى زوجته جيهان، التي كانت قد طبخت طبقاً من العدس. كان نزار يعشق العدس عشقاً استثنائياً. قال لها:
"حضّري لي عشاءً..."
فردّت عليه ممازحة:
"آسفة، يا عضو المجلس التشريعي... هذه أكلة للفقراء."
فانفجر نزار ضاحكاً ضحكةً عالية لا تُنسى، ضحكة عبّرت عن رفضه لأن يتحوّل المناضل إلى شخصية برجوازية تنفصل عن الشعب.
كان يدرك أن العدس ليس مجرد طعام، بل رمزٌ للبساطة التي تمسّك بها حتى آخر لحظة.
في إحدى الأمسيات، دعا نزار بنات صديقه الدكتور أمجد شهاب إلى منزله لمناقشة الانتخابات المقبلة.
أراد أن تكون الدعوة "غير تقليدية"، فدخل المطبخ حاملاً "قرعة" كبيرة، وطلب من زوجته أن تحشوها. قال لها ضاحكاً:
"اليوم عندي ضيوف سياسيون... يجب أن نُكرمهم على طريقتنا!"
ولم يكن غريباً أن يغادر نزار النقاش السياسي كل بضع دقائق، متجهاً إلى المطبخ ليتفقد حال القرعة:
"استوَت؟ أم لا تزال؟"
كأن التحضير للديمقراطية لا يكتمل إلا بمذاق ورق العنب ودفء المطبخ العائلي.
عُرف نزار ببساطته الصادقة، وكان يعشق حلوى البسبوسة تماماً كما يعشق الحرية.
ربما كان يراها ملاذاً من ضغوط السياسة، أو مكافأةً بعد تسجيل فيديو ينتقد فيه الفساد.
لم يكن يرى في النضال سبباً للعبوس الدائم، بل كان يرى أن الضحكة موقف، تماماً كالكلمة الصادقة.
استُشهد نزار بنات تحت التعذيب، لكن ما لا يمكن اغتياله هو تلك الروح التي عرفها أصدقاؤه وعائلته:
روحٌ مرحة، صادقة، إنسانية.
يروي من عرفوه تفاصيل عن نكاته، وعن صراخه في وجه الظلم.
كان نزار بنات يعلم أن القلوب تُربَح بالحب، لا بالخوف، وأن الشعب الفلسطيني لا يريد زعيماً يرتدي ربطة عنق، بل من يأكل العدس معهم، ويضحك من قلبه، ويبكي حين يجب أن يبكى.
لم يكن نزار بنات يملك ثروة، ولا منصباً، ولا حساباتٍ سرّية، لكنه امتلك ما لا يقدر عليه كثيرون:
امتلك قلباً لا يعرف الخوف، ولساناً لا يعرف الصمت، وكرامةً لا تُشترى.
كان فقيراً بالمال، غنياً بالشجاعة، معتزاً بنفسه كأنّ في جيبه الدنيا، وكأنّ بيته المتواضع هو مقرّ القرار الوطني.
لم يُساوِم، لم يُجامل، لم يلبس الأقنعة.
عاش حرّاً، ومات حرّاً، فكانت روحه أكبر من كل المناصب، وأرفع من كل الصفقات.
لم يسعَ إلى أن يصبح زعيماً، لكنه أصبح رمزاً.
لم يتعطّف على الناس، بل كان واحداً منهم: يأكل العدس، ويضحك من قلبه، ويصرخ في وجه الظالمين كمن لا يملك شيئاً... سوى الحقيقة.
نزار ، أيها الحيّ فينا رغم الغياب،
نم مطمئنّ القلب...
فما خُنت يوماً، ولا ساومت، ولا ارتجفت أمام الظلم.
وهذا كافٍ ليكتبك الشعب الفلسطيني في ذاكرته الخالدة.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة