من العدس إلى الشّهادة... الشهيد نزار بنات كما لم تعرفُوهُ!

منذ أسبوعين   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

لم يكن الشهيد نزار بنات مجرّد ناشط سياسي ومعارض شرس، بل كان رجلاً استثنائياً في تفاصيله الصغيرة، بنكاته التي تُشبه الناس البسطاء، وبـ"نهفاته" التي تحوّلت، بعد رحيله، إلى شهادات حياة من نوعٍ آخر.

بين العدس والبسبوسة، وبين القرعة المحشوة والكلمات الثقيلة، صنع نزار بنات مساحة ضوء في عتمة السياسة الفلسطينية.

 

خلال فترة التحضير لانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، اتصل نزار وتحدّث إلى زوجته جيهان، التي كانت قد طبخت طبقاً من العدس. كان نزار يعشق العدس عشقاً استثنائياً. قال لها:

"حضّري لي عشاءً..."

 

فردّت عليه ممازحة:

"آسفة، يا عضو المجلس التشريعي... هذه أكلة للفقراء."

 

فانفجر نزار ضاحكاً ضحكةً عالية لا تُنسى، ضحكة عبّرت عن رفضه لأن يتحوّل المناضل إلى شخصية برجوازية تنفصل عن الشعب.

كان يدرك أن العدس ليس مجرد طعام، بل رمزٌ للبساطة التي تمسّك بها حتى آخر لحظة.

 

في إحدى الأمسيات، دعا نزار بنات صديقه الدكتور أمجد شهاب إلى منزله لمناقشة الانتخابات المقبلة.

أراد أن تكون الدعوة "غير تقليدية"، فدخل المطبخ حاملاً "قرعة" كبيرة، وطلب من زوجته أن تحشوها. قال لها ضاحكاً:

"اليوم عندي ضيوف سياسيون... يجب أن نُكرمهم على طريقتنا!"

 

ولم يكن غريباً أن يغادر نزار النقاش السياسي كل بضع دقائق، متجهاً إلى المطبخ ليتفقد حال القرعة:

"استوَت؟ أم لا تزال؟"

 

كأن التحضير للديمقراطية لا يكتمل إلا بمذاق ورق العنب ودفء المطبخ العائلي.

 

عُرف نزار ببساطته الصادقة، وكان يعشق حلوى البسبوسة تماماً كما يعشق الحرية.

ربما كان يراها ملاذاً من ضغوط السياسة، أو مكافأةً بعد تسجيل فيديو ينتقد فيه الفساد.

لم يكن يرى في النضال سبباً للعبوس الدائم، بل كان يرى أن الضحكة موقف، تماماً كالكلمة الصادقة.

 

استُشهد نزار بنات تحت التعذيب، لكن ما لا يمكن اغتياله هو تلك الروح التي عرفها أصدقاؤه وعائلته:

روحٌ مرحة، صادقة، إنسانية.

يروي من عرفوه تفاصيل عن نكاته، وعن صراخه في وجه الظلم.

 

كان نزار بنات يعلم أن القلوب تُربَح بالحب، لا بالخوف، وأن الشعب الفلسطيني لا يريد زعيماً يرتدي ربطة عنق، بل من يأكل العدس معهم، ويضحك من قلبه، ويبكي حين يجب أن يبكى.

 

لم يكن نزار بنات يملك ثروة، ولا منصباً، ولا حساباتٍ سرّية، لكنه امتلك ما لا يقدر عليه كثيرون:

امتلك قلباً لا يعرف الخوف، ولساناً لا يعرف الصمت، وكرامةً لا تُشترى.

كان فقيراً بالمال، غنياً بالشجاعة، معتزاً بنفسه كأنّ في جيبه الدنيا، وكأنّ بيته المتواضع هو مقرّ القرار الوطني.

 

لم يُساوِم، لم يُجامل، لم يلبس الأقنعة.

عاش حرّاً، ومات حرّاً، فكانت روحه أكبر من كل المناصب، وأرفع من كل الصفقات.

لم يسعَ إلى أن يصبح زعيماً، لكنه أصبح رمزاً.

لم يتعطّف على الناس، بل كان واحداً منهم: يأكل العدس، ويضحك من قلبه، ويصرخ في وجه الظالمين كمن لا يملك شيئاً... سوى الحقيقة.

 

نزار ، أيها الحيّ فينا رغم الغياب،

نم مطمئنّ القلب...

فما خُنت يوماً، ولا ساومت، ولا ارتجفت أمام الظلم.

وهذا كافٍ ليكتبك الشعب الفلسطيني في ذاكرته الخالدة.

 

[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

بيان نويهض الحوت تلتحق بشفيق وأنيس... ويصمت صوت الحقيقة

برحيل الدكتورة بيان نويهض الحوت، يُطوى فصلٌ ناصعٌ من تاريخ النضال الفلسطيني الثقافي والفكري. فقدت فلسطين اليوم امرأة كانت في آنٍ و… تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير