سمعان ميشال حطّاب (أبو إيلي)... من الأشرفيّة إلى مخيم شاتيلا، قلبٌ يسكُنُهُ النّاسُ
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي زحمة الحروب، وبين زوايا المدن التي التهمتها النيران، ووسط ضجيج البنادق وصراخ الضحايا، برز اسم رجلٍ لم يحمل يوماً سلاحاً، بل حمل قلمه... وقلبه.
سمعان ميشال حطّاب (أبو إيلي)، لبناني مسيحي من الرابية.
لم يكن في قلبه سوى شغف الحياة. عاش في الأشرفية بين الناس، افتتح محلّاً صغيراً لبيع الثياب، وكان مدرّباً لفريق الحكمة لكرة القدم، وأمين سرٍّ لمؤسسة مياه بيروت.
رجل بوجهٍ واحد في داخله: وجه الطيبة.
لم تكن الحرب بالنسبة إليه ساحة بطولات، بل كانت نهاية أحلام.
أحرقت الحرب محله في الأشرفية، ولم تترك له سوى ثلاثمئة بنطال، وحفنة من الذكريات.
باع ما تبقّى ليسدّد أقساط أولاده الدراسية، وساقته الصدفة إلى مخيم شاتيلا.
في مخيم شاتيلا، بين الأزقة الضيقة والوجوه المتعبة، رأى ما لم يكن يراه في الأشرفية:
الحياة رغم الوجع، والكرامة رغم الفقر.
جاء ليبيع البناطيل، فسرقه التّجار.
لكن شيئاً في داخله قال له:
"هون في ناس أكتر من الأشرفية."
وقرّر أن يبدأ من جديد... أن يبيع، أن يشتري، أن يبتسم رغم كل شيء.
لم يكن مخيم شاتيلا محطة عبور له، بل كان بيتاً.
صار وجهاً من وجوه المخيم، وصارت حياة المخيم جزءاً منه.
افتتح محلّاً لتصليح ماكينات الخياطة، فأصبح مقصداً للناس الذين أحبّهم وأحبّوه.
من الأشرفية إلى مخيم شاتيلا، لم يحمل الحقد، ولم يصرخ في وجه الزمن،
بل قال:
"صبرا وشاتيلا الخير، صبرا وشاتيلا رزقتي، وشقفة مني."
أنا، كاتب هذه السطور، كنت يوماً صديقه في الأشرفية.
وصدفةً التقيته في صبرا، مكسوراً، مغدوراً، كالغريق الذي يبحث عن يد.
أمسك بيدي ولم يتركها، ومنذ ذلك اليوم، صار جاري، وصار لي كالأخ، كالماء النقيّ في عالمٍ قاسٍ.
مرّت السنوات، وتبدّل كل شيء.
وجوه رحلت، وأصوات خفتت، وأزقّة تغيّرت ملامحها.
أما هو، فغاب في صمت، كما كان يعيش دوماً... بصمت.
غاب سمعان(أبو إيلي) الذي لم يُؤذِ أحداً، غاب الذي كانت يداه مشغولتين بالرزق، وقلبه مشغولاً بالناس.
لم أعُد أراه كل صباح كما اعتدت،
ولم أعُد أسمع صوته في الزاوية نفسها التي كان يجلس فيها، يصلّح ماكينةً، أو يسقي زهرة قرب الباب.
فهل ما زال صديقي سمعان ميشال حطاب (أبو إيلي) على قيد الحياة؟
أم أن المخيم خسر أحد أنقى وجوهه، كما اعتاد أن يودّع أحبّاءه... بصمت؟
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة