غزّة وحدَها... والعُروبةُ في غيبوبةٍ!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيكشفت حرب غزّة الأخيرة هشاشة البنية السياسية والأخلاقية في العالم العربي، وفضحت ما كان يُخفى لسنوات تحت شعارات القومية والوحدة والدين.
قالوا لنا يوماً: "العرب جسدٌ واحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"، لكن غزّة اليوم تتلوّى وحدها، تنهشها أنيابُ القصف، وتغصّ بدماء الأطفال، ولا أحد يسهر... ولا أحد يحمي.
كذبوا علينا حين قالوا: "العرب أوفياء". فالعروبة اليوم في غيبوبة، والعواصم العربية يلفّها الصمت، والخذلان صار هو اللغة السائدة. المواقف الخجولة تُباع وتُشترى على موائد التطبيع، والدم العربي يُساوم عليه في صفقات الغاز والمعابر والمعاهدات.
يا غزّة، كم مرّةً كتبنا فيكِ قصائد المجد، ثم رميناها في الأدراج؟ كم مرّةً صرخنا باسمكِ في الساحات، ثم بعناكِ في مزاد السياسة؟
أيُّ خذلانٍ هذا الذي تعانينه من إخوتكِ؟ وأيُّ عارٍ يسكنُ الحناجر؟
لقد أظهرت حرب غزّة انقساماً حادّاً في مواقف الدول العربية، وكشفت انتماءاتها الحقيقية. لم تعد الشعارات تنطلي على الشعوب. بات من الواضح لأبسط مواطن عربي، من المحيط إلى الخليج، من هي الأنظمة العميلة، وما هي الأحزاب التابعة — سواء كانت دينية تتاجر بالمقاومة، أو يسارية تروّج لكيان الاحتلال تحت عباءة "الواقعية".
غزّة اليوم بلا كهرباء، بلا ماء، بلا دواء... فقط رُكام، وأنينُ أمّهات، وعيونٌ تبحث في السماء عن إجابة. لكنّ السماء صامتة... والعرب كذلك.
نحن لا نطلب من العروبة جيوشاً، ولا طائرات، بل فقط شيئاً من الإنسانيّة. ألا يُصفَّق للمحتل، وألا تُصافح الأيادي الملطّخة بالدم.
لكن يبدو أنّ في هذا الزمن، حتى الإنسانيّة باتت سلعة تخضع للمصالح.
نحن أمام لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة، إذ تتغيّر ملامح الخريطة السياسية، وتتهيّأ الشعوب لانتفاضات قادمة، بثوبٍ جديد، قد لا يشبه ما عرفناه من قبل، لكنها قادمة لا محالة. فالغضب يتراكم، والنقمة تتأجّج، والسقوط آتٍ لا مفرّ منه.
دولٌ كثيرة مرشّحة للسقوط، ودول ستُعلن إفلاسها، ودول قد تشهد انقلابات عسكرية أو حروباً أهلية، لأن الأنظمة التي خذلت شعوبها، ووقفت على الحياد أمام المجازر، لا تملك شرعية البقاء. وهذه الدول، مهما طال عمرها، ستتلاشى بفعل حركة التاريخ.
غزّة لا تبكي لأنّ القصف اشتدّ، بل تبكي لأنّ الخذلان أوجعُ من الصواريخ. وإن كان في الغدر دروسٌ، فإننا اليوم نكتب على جدران الألم:
"العربيّ فقد الوفاء"،
و"كذبوا حين قالوا إنّ العرب أوفياء".
نموت في غزّة كلّ يوم، لا لأنّنا ضعفاء، بل لأنّنا وحدنا نقاتل العالم كله. نحمل على أكتافنا ثقل أمةٍ نسيتنا، وتركتنا نحترق في صمت.
صرخنا كثيراً... فلم يسمع أحد، وكتبنا بالدم... فلم يقرأ أحد.
واليوم، لا نطلب شيئاً، لا انتظار، لا رجاء، فقط أن تُكتب الحقيقة على شاهدِ قبرِنا:
"هنا مات الوفاء، ودفن العرب رؤوسهم في التراب."
خذلنا العرب، لا لأنّهم عاجزون، بل لأنّ النخوة ماتت فيهم بصمت.
ماتت النخوة، وتُركت غزّة وحيدةً تُكفّن أبناءها بيديها،
بينما العروبة تحوّلت إلى كلمةٍ جوفاء... تُردَّد كثيراً، لكنها تسقط من القلوب كما تسقط الورود على قبورٍ منسيّة.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة