غزّة تُذبحُ... والأُمّةُ تتوضّأُ للصّلاةِ!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي زمنٍ انقلبت فيه الموازين، وانعكست فيه المفاهيم، أصبح الدمُ خبز الفقراء، وأضحت الدموعُ اللغة الوحيدة التي يفهمها أطفال غزة. هناك، حيث يُولد الطفلُ وهو يعلم أن حضنه الأول ليس صدر أمّه، بل أنين القصف، وأن أول لُعبته ليست دمية من قطن، بل شظية حادّة تنتظر أن تستقر في عينيه أو صدره.
غزة لا تحتضر فحسب، بل تُقتل مراراً، ويموت معها ما تبقّى من نخوةٍ في صدور من يدّعون العروبة والإسلام. تحتضن غزة أحزانها، وتلتحف بقايا ركامها، بينما تُغلق الأبواب في وجهها، وتُفتح خلفها مؤتمرات التنديد والقلق والشجب.
أين الأمة؟ أين من كان يقول: "إنما المؤمنون إخوة"؟
أين أولئك الذين صدّعونا بخطب الوحدة، والنخوة، والدم الواحد؟
غزة اليوم لا تسأل عن السلاح، بل عن الخبز، عن الماء، عن الدواء. تسأل: "هل كُتب عليّ أن أكون ميداناً دائماً للموت، وحقلاً للأشلاء؟"
في زمنٍ صار فيه الكلبُ سيداً، والثعلبُ حاكماً، والذئبُ راعياً، نجد العربيّ يضع الكوفية في المتحف، ويعلّق القضية على الجدران كصورة قديمة بهتت مع الأيام. شيخ القبيلة مشغول بلون عباءته، والقائد مشغول بعدد متابعيه على المنصات، والجيوش تفتّش في الثكنات عن غلامٍ يرفع السلاح... لا لتقاتل، بل لتقول للعالم: "لدينا جيش".
أين القدس من خرائط قلوبكم؟ أين غزة من خُطب الجمعة؟
صار الدم الفلسطيني خبراً عادياً في نشرات الأخبار، وصورة شهيد طفلٍ تُقابل بابتسامة باردة، أو بتنهيدة محفوظة. حتى القبر هناك لم يعد يسع لميت، بل يُبنى على عجل، ولا يُحفر بيدٍ إنسانية، بل تحفره آلة لا تعرف الرحمة.
العرب اليوم يتفرّجون؛ بعضهم يطبّع، وبعضهم يُصفّق، وبعضهم يرفع صوته بالشتائم على الضحية، بينما القاتل يعيد ترتيب الجغرافيا بالحرب والنار.
غزة تنزف، لا لأنها ضعيفة، بل لأنها وحدها، تحمل على كتفيها عار أمةٍ نامت، وتستفيق فقط عندما تتحدث عن أسعار النفط، أو تعدّد فوائد الاستثمار في "تل أبيب".
في غزة، تموت الطفولة، تموت الكلمات، وينكسر الشعر في فم الشعراء، لأن الحبر لا يكفي لوصف حجم الوجع، ولأن القصيدة خجلت من أن تبقى حبراً لا يُسعف طفلاً ولا يوقف قذيفة.
وحدها غزة اليوم تقف، ليس لأنها لا تسقط، بل لأنها اعتادت السقوط، ونهضت من تحته ألف مرة. تقف لتقول لنا جميعاً: "من مات فيّ، لا يموت، ومن عاش في صمتكم، قد مات قبل أن يولد".
يا غزة… لا تعتبي كثيراً، فقد جفّ الدمع في العيون، وتحوّلت القلوب إلى حجر، واستكانت الضمائر في سباتٍ عميق. لا تنتظري نخوةً من أمةٍ باعت كرامتها على موائد السلاطين، وخلعت عباءة الدين لتلبس رداء الخنوع.
تُقاومين وحدكِ، تدفنين شهداءكِ بصمت، وتبنين من الركام مآذن تصدح بالأذان في وجه الموت.
أما نحن… فنموت في كل مرة نراكِ تنزفين ونحن مكتوفو الأيدي، نصرخ ولا يسمعنا أحد، نكتب ولا يُترجم الحرف إلى فعل.
يا غزة…
سامحينا، فنحن أمةٌ تفرّق دمكِ بين القبائل،
أمةٌ تقرأ التاريخ، لكنها لا تصنعه،
أمةٌ تعرف طريقكِ، لكنها تخاف أن تمشي فيه.
وحدكِ تعيشين البطولة، ووحدنا نعيش العار.
وما أقسى أن يُترك البطل في الميدان،
بينما يهتف الجبناء من خلف الشاشات:
"قلوبنا معكم"... والقلوب ماتت منذ زمن.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة