ناجي العلي رسمها، ونزار بنات نطق بها: سيرةُ وطنٍ يغتالُ أبناءَهُ!

منذ 3 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

لم يكن نزار بنات يعرفني، ولم أكن أعرفه.

لكن في أحد الأيام، رنّ هاتفي، فإذا بصوتٍ جديد يسألني عن كتابي "ناجي العلي... من أجل هذا قتلوني"، الصادر عن دار بيسان في بيروت عام 2001.

سألني بأسلوبه المباشر:

"قرأت عن كتابك عن ناجي العلي... من أين يمكنني الاطلاع عليه؟"

 

لم يكن الاتصال عابراً، ولا السؤال عاديّاً.

شعرتُ، منذ اللحظة الأولى، أن هذا الصوت ليس كسائر الأصوات.

كان نزار بنات يبحث عن ناجي العلي، لا كفنان، بل كنهج.

كان يُفتّش في صفحات الكتاب عن سيرة تُشبهه، عن ملامح مقاومة تُشبه صوته، وربما عن مصيرٍ يدرك أنه في انتظاره.

 

ذلك الاتصال الأول كان بداية نصّ لم نُكمله.

وكان نزار بنات، منذ البدء، يشبه ناجي العلي: يكتب بدمه، يوقّع بالحقيقة، ويسير في اتجاهٍ واحد: ضد الخوف، ضد القهر، وضد الخيانة.

 

منذ تلك اللحظة، بدأت الحكاية بيني وبينه.

 

لم يكن بيني وبين نزار بنات سوى شاشة.

لا مقهى يجمعنا، ولا ضحكة تُغطّي الوجع.

كلّ ما كان بيننا: بضعُ رسائل، ونبرةُ تعبٍ تأتي مختبئةً خلف الكلمات.

 

آخر مرة كلّمني فيها، كتب لي:

"لعله خير، نشوفك بكرة، تصبح على خير، اكيد يا باشا."

كانت الجملة قصيرة، بسيطة،

لكنها كانت جرساً يدقّ في رأسي كلّ ليلةٍ منذ ذلك اليوم.

 

في لقائنا الأخير، كانت كلماته محمّلةً بما لا يُقال،

بوجعٍ غامض، كأنه كان يعلم أن الفجر لن يطلّ عليه.

حدّثني عن مدينة الخليل، عن الفساد، عن القهر،

عن جرحٍ لا يلتئم...

وحدّثني عن الوطن الذي يُجلد كلّ ليلة.

 

نزار بنات لم يكن يخاف الموت،

وكان يدرك أن صوته لم يعد يُزعج المحتلّ وحده،

بل صار يُربك من لبسوا ثياب الوطن... ورفعوا السكاكين في وجهه.

 

في صباح الرابع والعشرين من حزيران 2021،

استُدعِي نزار بنات من فراشه فجراً... لا للمثول أمام العدالة،

بل ليموت تحت ضرباتٍ همجية،

بعتلاتٍ حديديةٍ هوت على جسده وهو نائم،

من يد قوةٍ أمنية تتبع للسلطة "الفلسطينية" في الخليل.

 

لم يكن متهماً بالخيانة... بل بالصدق.

لم يكن يحمل سلاحاً... بل كلمة.

 

نزار بنات الذي عاش حياته مدافعاً عن الفقراء،

صاحب الصوت المدوّي ضدّ الفساد، قُتل وهو ينطق بما لم يحتمله أصحاب المكاتب المحصّنة بحصون الظلم والخيانة.

كان يعلم أن هذا الوطن لا يحتمل الكلمة، ولا يتّسع لرأيٍ حر،

فكتب بدمه آخر مقال، وترك على جدران القهر وصيةً، تقطر ألماً وكرامة.

 

نزار، يا من قلتَ: "التاريخ لا يخلّد الخونة"، صدقت.

فأنت تُكتَب الآن في دفاتر الخلود، شهيد الكلمة، ونبض الحرية.

استرح حيث أنت، وافترش السماء، فإن ضاقت بك الأرض، فصدورنا مفتوحة لك.

وإن صمتت البنادق، فصوتك لن يُدفن.

وإن غابت العدالة، فذكراك هي الحُكم.

 

بعد استشهادك، عدتُ إلى رسائلنا.

أعدتُ قراءة كلّ كلمةٍ كتبتها لي.

بحثتُ عن وداعٍ ضمني، عن نبوءة، عن لمحةِ حزنٍ خبّأتها عمداً.

 

في آخر سطرٍ لك، كتبتَ لي:

"إذا متُّ... لا تبكِني، بل تذكّرني".

 

وها أنا أكتب، يا نزار، لا بوصفي كاتباً صحفياً، بل بوصفي صديقاً لم يُمسك بيدك في النهاية،

رفيقاً لم يستطع أن يُبعد الحديد عن جسدك،

ولم يتمكن حتى من أن يقول لك: "انهض، نحن ما زلنا بحاجةٍ إليك"، لكنهم كانوا أسرع.

ضربوك حتى فارقت الحياة،

ثم خرجوا ليُعلنوا: "مات أثناء الاعتقال."

 

يا نزار...

لم تمت أثناء الاعتقال،

بل قُتلت أثناء اليقظة.

قُتلت لأنك كنت أشد وعياً من أن تُشترى،

وأكثر صدقاً من أن تُكسَر.

 

صديقي نزار...

كلّ ما تبقّى منك: صورة مشوّهة لوجهك في المستشفى،

وتقارير طبية مُسيَّسة،

وصمت رسميٌّ يقطر خيانة.

لقد أدار الدهر وجهه عنك،

كأنك قلت ما لا يُقال،

وكأنّ الصدق الذي سكن صوتك كان جُرماً لا يُغتفر.

 

لكننا نعرف الحقيقة.

أنت لم ترحل... بل رُحِّلت، بقرار، وبترتيب، وبيدٍ يعرفها الناس جيداً.

 

أكتب الآن،

لا لأرثيك، بل لأدين من قتلك،

لا لأبكيك، بل لأكشف أن "أجهزة الحكم" حين تفقد مشروعيتها،

تصبح أكثر دمويةً من الاحتلال نفسه.

 

وها نحن نطوي الصفحة الأخيرة،

لا لأنّ الحكاية انتهت، بل لأن الراوي خُنق قبل أن يُكملها.

نزار بنات لم يمت وحده، بل ماتت معه قطعةٌ من كرامتنا،

وانكسر فينا شيء لا يُرمَّم.

تركنا في العراء، نُحدّق في الفراغ،

نبحث عن وجهه بين الأخبار، فلا نجده...

ولا نجد سوى الصمت، هذا الصمت الثقيل الذي يشبه المقابر.

 

وإن سألني أحدهم يوماً:

"هل التقيت نزار بنات؟"

سأقول:

"نعم، التقينا في نصّ، في رسالة، في لحظة صدقٍ عبر الشاشة...

وكان ذلك اللقاء كافياً ليكسرني عمراً كاملاً بعد غيابه."

 

في الليلة الأخيرة... ليلة الاغتيال،

وجدتُ على هاتفي أكثر من عشر مكالمات فائتة من نزار.

أعدتُ الاتصال به، فكان صوته مضطرباً...

متوتراً كما لم أعهده من قبل.

تحدّثنا طويلاً.

بدأ يحكي لي عن أطفاله،

يذكر أسماءهم بضحكة مختنقة،

ويُلقّب كلّ واحدٍ منهم بلقبه المحبب،

كأنه كان يودّعهم من بُعد.

كان الشوق في صوته واضحاً،

خاصةً حين تحدّث عن "مارية"، آخر العنقود، ومهجة قلبه،

وكان يُدلّلها بـ"ماشا".

 

ثم جاءه اتصالٌ آخر...

فأغلق على وعد:

"نكمل حديثنا غداً..."

 

لكن الغد لم يأتِ.

الغد خذلنا.

الغد صمت، كما صمت كلُّ شيء بعد تلك الليلة.

 

وبعد اغتيالك، يا نزار،

كنتُ - وما زلت - أخجل من النظر إلى صورتك.

أخجل، لأننا جميعاً شاركنا في اغتيالك.

تركناك وحيداً تواجه العصابة، ووقفنا نتفرّج.

شاركنا في قتلك بالصمت... بالخوف... وبالتجاهل الذي يشبه الخيانة.

سامحنا، يا نزار، لأننا خذلناك جميعاً،

ولأننا لم نكن رجالاً حين كنتَ وحدك تمشي في وجه العاصفة.

سامحنا... إن استطعت.

نم كما تنام الجبال حين تُثقُلها الخيبات،

فأنت من جعل الكلمة سيفاً،

ومن جهرَ بالحقّ حين صمت الجميع.

 

نم قرير العين، يا نزار،

فهذا الوطن الذي أحببته، ضاق بصوتك الحر،

وهذا الزمان الذي أفنيتَ عمرك لأجله، لم يعرف قيمتك.

 

وإن خانتك الأرض، فلن يخونك رب السماء،

وإن خذلك الزمان، فلن تخذلك عدالةُ يومٍ لا ظلم فيه.

نرفع إليك الدعاء،

وواثقون أن الله لا يُضيّع صوتاً صادقاً،

ولا ينسى شهيداً قال الحقّ في وجه الظلم، فدفع روحه ثمناً.

 

سلامٌ عليك، يا نزار،

يوم وُلدت حرّاً،

ويوم نطقتَ صدقاً،

ويوم ارتقيتَ شهيداً.

 

[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.



مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

عشيرة عرب السّمنيّة.. حين صنع نايف الحسن صوت البطولة!

في صفحات التاريخ التي تروي قصص العزّة والصمود، تبرز عشيرة عرب السّمنيّة في قضاء عكا رمزاً للكرامة والفخر. جدّهم خطّاب، الذي وُوري … تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير