وصيّةُ الدّم... من نزار بنات إلى ابنته مارية بنت الأربعين يوماً!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيمارية...
يا ماشا...
يا وجعي الصغير، يا آخر الوجوه التي لم أرَها،
يا من دخلتِ الحياة وأنا أُنتزَعُ منها،
يا من لم تعرفيني إلا من صورةٍ ضبابية، وصوتٍ على لسانِ الناس يقول:
"كان أبوكِ حرّاً... فقتلوه."
لم ألمسكِ، لم أضمّكِ،
لم أنظر في عينيكِ طويلاً.
كلُّ ما أملكه منكِ: صورة، ومقطع فيديو أرسلَته أمُّكِ، ودمعةٌ عالقةٌ في قلبي إلى الأبد.
من تحتِ هذا الترابِ البارد، يا صغيرتي،
أمدّ يدي إلى السماء، لا لأشكو، بل لأوصي...
لأترك لكِ هذا النبض الأخير من قلبي الذي لم يُكمل فرحته بكِ.
اعذري غيابي يا مارية،
فليس كلُّ غيابٍ اختياراً،
أحياناً يغيب الأب لأنَّ الحقيقة كانت أثقل من بقائه،
ولأنّ الموت قرّر أن يسبق خطواتكِ نحوي.
أعلم أنّكِ تكبرين الآن في بيتٍ لا ظلَّ لي فيه،
في وطنٍ لا يحنو على أبناء الأحرار،
وأنّكِ سترضعين طعم الخوف من صدور الأمهات، قبل أن تذوقي طعم الحليب.
سامحيني يا ماشا...
لأنكِ ستكبرين دون أن تعرفي صوتي،
لأنكِ ستسألين يوماً: "لماذا صديقاتي لديهن آباء... وأنا لا؟"
ولن تجدي إلا وجعاً في عيني أمك، وصورةً لي على الحائط.
كنتُ أريد أن أعلّمكِ المشي، لا أن تمشي الحياةُ عليكِ بلا رحمة.
كنتُ أريد أن أحكي لكِ حكاية كلّ ليلة، لا أن تكوني أنتِ الحكاية التي يتناقلها الناس بصوتٍ حزين.
كنتُ أحلم أن تحملي اسمي بفخر، لا أن تحمليه كأنّه تهمة.
مارية...
أعلم أنّ طفولتكِ سُرقت قبل أن تبدأ،
وأنّكِ ستكبرين باكراً، دون أن تملكي رفاهية البكاء على لعبةٍ ضاعت.
ستبكين فقط حين تسمعين اسمي،
حين تقرئين كيف قُتلت،
وحين تعرفين أنّ دم أبيكِ سال... فصمت الجميع.
لكن لا تجعلي الحزن يقتلكِ مرتين،
ولا تظنّي أن اليُتمَ ضعفٌ...
بل صدّقي دائماً أنّ أباكِ رحل واقفاً، لأنّه لم يركع.
وإن سألكِ أحدهم يوماً:
"من تكونين؟"
فارفعي رأسكِ، وقولي:
"أنا مارية، ابنةُ الشهيد نزار بنات... ابنةُ الأربعين يوماً التي سرقوا منها الأب، وتركوا لها وطناً جريحاً."
وإن سألتِني:
"لماذا لم تَبقَ من أجلي؟"
فسأجيبكِ من هذا الترابِ، بصوتٍ لا يسمعه إلّا الأحرار:
"لأنني أحببتكِ أكثر من الحياة... لكنهم كرهوا الحياة التي تشبهني."
وإن كبرتِ يا مارية،
وأصبحتِ تفهمين ما يُقال خلف الصور،
فلا تبحثي عني في ألبوماتِ العائلة،
ولا في عيد ميلادكِ الأول،
ولا في ذكرياتٍ لم نصنعها معاً...
ابحثي عني في الصمت،
في دمعة أمكِ حين تناديكِ وحدها،
في رائحة ثيابي التي لم تُغسل منذ رحيلي،
في ظلّكِ حين تشعرين أنّ أحداً يراقبكِ بحنان... ثم لا تجدين أحداً.
سامحيني إن كنتُ قد تركتُكِ باكراً،
فأنا لم أرحل وحدي...
بل أخذوا مع دمي طفولتكِ،
وألقوها على عتبة وطنٍ لا يحتمل الأحلام.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.
.jpeg)

أضف تعليق
قواعد المشاركة