الشهيد نزار بنات... حين يُغتالُ الصوتُ ولا تموتُ الحقيقة!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي ليلةٍ خرساء كُتبت بالوجع، أُسدِلَ فيها ستارُ الصمتِ على حنجرةٍ لم تعرف الصمتَ يوماً...
في تلك اللحظة التي خنق فيها الليلُ أنفاس الحقيقة، رحل نزار بنات.
لم يكن خبرُ رحيلهِ عابراً كأيِّ موت، بل كان رعشةً في قلبِ الوطن، وزلزلةً أيقظتِ الأسئلةَ المذبوحة:
أيُّ وطنٍ هذا الذي يفترسُ أبناءه؟
وأيُّ حريةٍ تُغتالُ بأيدٍ تُنادي باسمها، ثم تطعنها في الظل؟
نزار بنات، ذلك الرجلُ القويُّ البُنية، العظيمُ الصوت، الذي لم يكن يحمل من سلاحٍ سوى كلمته، وقف في وجه طغيانٍ داخليٍّ ينهش ما تبقّى من روح فلسطين.
ما باع، وما خان، وما ارتضى أن يعيش على هامش الكرامة. كان جسراً صعب العبور بين الحقيقة والجبن، فقرّروا أن يهدموه.
ضُرب حتى الموت، لا على يدِ غريب، بل على يدِ من لبسوا وجه الوطن وخنقوه. انهالوا عليه بعتلةٍ حديدية، وهراوات، وغاز الفلفل، كأنهم يخافون أن تبقى فيه نبضةُ حياةٍ تنطق بالحقيقة. لم يُمنح فرصةً للدفاع، ولم يُمهَل حتى يُكمل عدّهم... فقط، أسكتوه، لكنهم نسوا أن نزار بنات لم يكن جسداً فقط، بل كان فكرةً، وكان وهجاً لا تُطفئه الهراوات، ولا طلقات الخوف.
لم يكن يكتب ليُعجب، بل ليوقِظ. لم يكن يخطب ليمجَّد، بل ليحرِّض على الحق. وحين قال كلمته، كان يعلم أن ثمنها حياته، ومع ذلك مضى.
تركنا نزار بنات، لكن صوته لم يتركنا. وصيّته تمشي بيننا: "لا تتركوا صوتي يموت."
فكيف يموت صوتٌ بهذا الصفاء والصدق؟ كيف يُقتل رجلٌ لم يطلب إلا كرامةً لأبنائه، وحريةً لشعبه، ووطناً لا يُدار كدكّانِ فساد؟
يا نزار، نم قريرَ العين، فأنت قلت كلمتك ورحلتَ. أمّا هم، فسيبقون عالقين في مستنقع خيانتهم، لا يُطهِّرهم ماء زمزم، ولا يُنقذهم نسيان.
سيذكرك الناس حين تُذكر الحقيقة، وسيحملك التاريخ في صفحته البيضاء،
لأنّ التاريخ لا يُخلِّد الخونة، بل يُخلِّد الأبطال فقط.
وفي اللحظة الأخيرة، لم يكن نزار يفكّر إلا بأطفاله:
خليل، وكان يدللُه بـ(جعجول)، ومريم بـ(عبدالجبار)، ومارية بـ(ماشا)...
كان قلبه معلّقاً بضحكاتهم، بخطواتهم الصغيرة،
بعيونهم التي لم تعرف حتى الآن قسوة العالم، ولا خيانة الكبار.
كان يحلم أن يكبروا في وطنٍ لا يُخنق فيه الحُلم، ولا تُكسر فيه الكلمة، ولا يُدفن فيه الصوت حيّاً.
وكان يردّد دوماً: "أريد أن يحيا أطفالي بكرامة."
لكن اليد التي أطفأت صوته، لم تكتفِ باغتياله، بل اغتالت حُلمه في أن يراهم يكبرون أمامه، يسمعهم ينادونه: "بابا"، في صباحٍ عادي، لا يقطعه الخوف، ولا يفتّته الظلم.
يا خليل، إن كبرتَ ولم ترَ والدك، فاعلم أنه مات من أجلك، ليبقى اسمك عالياً.
ويا مريم، إن سألتِ يوماً عن سبب غيابه، قولي: "أبي مات واقفاً، لأنه رفض أن ننحني."
أما مارية الصغيرة، التي ما زال صدرها يفتّش عن رائحته، فلها الحق حين تكبر أن تعرف: أن أباها لم يكن غائباً، بل حاضراً في كل صرخة حقٍّ، وفي كل قصيدة مقاومة.
نزار لم يترك لهم بيتاً من حجر، لكنه ترك لهم بيتاً من كرامة، وصوتاً لن يسكت، وأمانةً في أعناقنا جميعاً...
ارقد بسلامٍ يا نزار، فأطفالك سيكملون الطريق، ونحن لن نترك صوتك يموت.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة