خليل نزار بنات... يكبُرُ على وجعِ الوطنِ!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي حيٍّ بسيط من دورا – الخليل، حيث البيوت متلاصقة كأنها تتعانق خوفاً من الوحشة، يقع بيتٌ لا يشبه سواه.
هناك، عند الزاوية الشرقية، في بيت الشهيد نزار بنات، ما زال الحزن يسكن الجدران، وما زال طفلٌ اسمه خليل يقف عند الشباك ينتظر.
خليل لا يعرف تماماً ما حدث. يعرف فقط أن والده خرج ذات فجر ولم يعد. لم يخبره أحد أن والده استُشهد وهو يقاتل بالكلمة، لا بالسلاح. كان نزار بنات، من داخل منزله في دورا – الخليل، صوتاً لا يُقهر، صريحاً في زمن المواربة، جريئاً في وجه الفساد والخوف. حتى فجر تلك الليلة، حين اقتحمت أقدام الظلم البيت، وسكت كل شيء... ما عدا الحقيقة.
ومع كل هذا، من يشرح لخليل معنى "الاعتقال السياسي"، أو "القمع"، أو حتى "الاغتيال"؟ هو فقط يعرف أن والده لم يعد إلى حضنه، وأن المساء صار طويلاً منذ ذلك اليوم.
يقف خليل عند شباك البيت في الطابق الأرضي، يتأمل الشارع، يحصي الخطوات، ويسأل أمه: "متى يرجع بابا؟"
وبجانبه دائماً "كَشكَش"، كلبه الصغير.
منذ استشهاد نزار بنات، لم يعد "كَشكَش" كما كان. صار أكثر صمتاً، أكثر حذراً، وأكثر وفاءً. لا يترك باب البيت، ينام عند العتبة، ويستيقظ فجأة إذا ما سمع صوتاً يشبه وقع خطوات نزار.
"كَشكَش" لا يعرف الكلام، لكنه يفهم الغياب، ويمارس الحراسة، ليس على البيت فقط، بل على ما تبقى من العدالة.
في بيت نزار في دورا- الخليل، تُروى الحكايات همساً.
صورته على الحائط، صوته في ذاكرة الهاتف، مقالاته التي لم تكتمل، وأحلامه التي كانت أكبر من أن تُدفن. لم يطالب بالكثير: فقط وطن نظيف، وكرامة، وعدالة. لكنهم لم يحتملوا كلماته.
خليل اليوم يكبر على الغياب، يدرس في زاويةٍ كانت يوماً مجلساً لوالده، يكتب اسمه على دفاتره، ويضع تحت الاسم كلمة واحدة: ابن الشهيد. لا يفهم عمق الكلمة بعد، لكنه يعرف أنها أثقل من سنوات عمره.
وفي كل مساء، حين تميل الشمس نحو الغروب، يقترب من الشباك كمن يدخل طقساً من الحنين، يضع يده على الزجاج، يتنفس بخفة، يرسم قلباً صغيراً، ويكتب داخله: "بابا".
لا شيء يجيب. فقط "كَشكَش" ينبح مرة، ثم يعود إلى صمته. كأنهما، خليل وكلبه "كَشكَش"، يقيمان حراسة على ذاكرة رجلٍ لم يكن ينبغي أن يُغتال، لكنه اغتيل… لأنه قال الحقيقة.
وتمضي الأيام في دورا – الخليل، ولا شيء يتغير في ذلك البيت الذي فقد صوته العالي.
نزار بنات غائب بجسده، حاضر في كل ركن، في كل تنهيدة، في عيون خليل التي شاخت قبل أوانها، وفي نباح "كَشكَش" الذي صار مرثية يومية لعدالة لم تأتِ.
خليل ما زال ينتظر، لا لأنه لا يفهم الموت، بل لأنه لا يريد أن يصدق أن من كان يملأ البيت بالحياة، يمكن أن يُمحى هكذا.
" وكَشكَش" ما زال يحرس العتبة، كأن صاحبه سيعود، كأن الظلم سينهزم، كأن الحقيقة ستنهض وتمشي من جديد.
لكن الحقيقة موجعة، والعدالة أبطأ من دمعة طفل، ونزار... نزار بنات لن يعود.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة