نزار بنات واليمن... قصّةُ حُبٍّ لا تعرفُ الخيانة!
محمود كلّم
كاتب فلسطيني لم يكن الوطن، عند نزار بنات، مجرد أرضٍ وعلم، بل كان شعوراً بالكرامة لا يُباع، وصوتاً لا يُشترى. وحين ضاقت به حدود الجغرافيا، وجد في اليمن قلباً آخر ينبض بالمقاومة، جُرحاً يشبه جُرحه، وصرخة لا تختلف عن صرخته الأخيرة.
في كل سطرٍ كتبه، كان اليمن حاضراً... لا لأنه بلده، بل لأنه يُشبهه: محاصَر، صامد، نازف، لكنه لا ينحني.
رحل نزار بنات، وبقي صدى كلماته يتردَّد على جبال اليمن، كما لو كان يعرفها عمراً، وكأنها كانت تعرفه جيداً. فبعض الأرواح تلتقي رغم المسافات، وتُحب رغم الحصار، وتظلُّ وفيّة حتى بعد الموت.
ما سرّ حبّ نزار بنات لليمن؟
وما الذي جعل اليمن، في نظره، عنواناً للنخوة، وأيقونةً للوفاء العربيّ في زمنٍ شحّت فيه المروءة، وتكاثرت فيه الخيانات؟
بدأت الحكاية حين كان نزار طفلاً في السادسة من عمره، غادر مدينة الخليل مع أسرته إلى السعودية، ليستقرّوا في مدينة الهفوف. هناك، بدأت أولى فصول العلاقة الوجدانية بينه وبين اليمن، علاقة نسجتها التجربة قبل الكلمات، وغذّتها المواقف أكثر من الخطب.
في مدرسة تحفيظ القرآن الكريم بالهفوف، التقى نزار بأستاذٍ يمنيّ للغة العربية، رجلٍ قصير القامة، نحيل الجسد، لكنه ممتلئ الروح. أحبّ هذا الأستاذ تلميذه الفلسطيني الصغير، واحتضنه بعنايةٍ خاصة، وأسند إليه مهامّ لم تكن تُكلَّف بها أعمارٌ كتلك، فشعر نزار أنه يؤدي دوراً استثنائياً، أشبه بـ"مبعوثٍ أمميّ".
هناك، على مقاعد الدراسة، ارتبط اليمنيّ في وجدانه بالكرامة والثقة والدفء الإنساني.
لكنّ التجربة التي حفرت في ذاكرته صورة لا تُمحى، كانت يوم اندلع حريق في منزل أسرته. وبينما اكتفى الجميع بالمشاهدة، اندفع شابٌ يمنيّ، لا يعرف العائلة، بشجاعة نادرة وسط ألسنة اللهب والدخان لإنقاذهم.
ذلك المشهد ظل حاضراً في وعي نزار، يعود إليه كلما سالت دماء شعبه، وكلما خذلته مواقف الصمت العربي.. إلا من اليمن.
لم يكن نزار يسأل فقط عن المواقف، بل عن الجوهر:
ما سرّ هذا القلب اليمني؟
ما الذي يجعلهم يشعرون بأن فلسطين ديارهم؟
لماذا لا يصمتون حين يصمت الجميع؟
لماذا لا يخونون؟
بحث عن الجواب في التاريخ، في كتب القبائل والمآثر، في سِيَر الكرماء وأهل النخوة، وفي تفاصيل الرُّكن اليمانيّ بالكعبة، الذي كان يشدّه إليه شعورٌ خفيّ، وكأنّه علامة روحية على أمةٍ لا تموت.
أحبّ اليمن لأنه وجد فيه ما لم يجده في غيره: الشرف الأصيل.
سمع كلمة "النخوة" أول مرة من رجلٍ يمني، وآخر مرة لمس معناها كانت حين تخلى العالم عن فلسطين.. وبقي اليمن صامداً.
سأل نفسه ذات مرة:
لماذا يحبّ الفلسطينيون اليمن كما لو كان قطعة من بلادهم؟
ربما كان الجواب في صوت فرقة "العاشقين"، حين غنّت في عدن عام 1983، في حفلٍ لم يكن فيه جمهور، بل جيشٌ من القلوب المفتوحة لفلسطين.
أحبّ نزار اليمن: لهجته، بساطته، أكله، شعبه، وتاريخه.
لكنه أحبه أكثر لأنه لم يخنه.
رآه دائماً هناك، حيث يُطلب الشرف، وحيث لا يُباع الصوت، ولا يُشترى.
حتى في أيامه الأخيرة، ظلّ نزار يتساءل:
هل يُولد اليمنيون بقلبٍ مختلف؟
هل يولدون وهم يعرفون أن القدس أختُ صنعاء؟
استُشهِد نزار بنات، وقلبه معلّقٌ بالرُّكن اليمانيّ، ساجداً بلا ركوع، يردّد في سرّه:
يا ليتني متُّ وأنا أعرف السرّ...
سرّ هذا الحب الذي لم يخنه اليمن يوماً.
رحل نزار، لكن السؤال الذي شغل قلبه لا يزال حيّاً بيننا:
ما سرّ هذا الوفاء اليمنيّ لفلسطين؟
قد لا نجد الجواب في كتب السياسة، لكنّنا نلمسه...
في يدٍ أنقذت بيتاً مشتعلاً، في نظرة أستاذٍ نحيلٍ أكرمه حبّاً، في أغنية من صنعاء تشدو للقدس، وفي ركنٍ يمانيّ بالكعبة يضجّ بالعروبة.
نزار بنات، المناضل الذي لم يساوم، مضى إلى ربّه ووجهته القدس... لكن قلبه، كان يمانيّاً.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة