جيهان ونزار... وحدهُما في حُضنِ الغيابِ!

منذ 3 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

في ذاك الصباح، لم تكن "جيهان" تعلم أن الأمان سيغادر بيتها إلى الأبد.

كانت الأصوات تعلو من حولها، ضحكات الأطفال وهمس الذكريات، لكنها شعرت بوخز غريب في قلبها.

خرج نزار بابتسامة اعتادت رؤيتها كل يوم، لكنها لم تكن تعرف أنها آخر ابتسامة ستراها منه.

وتركها خلفه وحيدةً مع صمتٍ ثقيل، وغيابٍ لا يُملأ، وحياةٍ لن تعود كما كانت.

 

اغتيل نزار...

ليس فقط بالعتلات، بل بالصمت، بالخذلان.

تركها في ربيع صباها،

تخيط وحدها جرحاً لا يلتئم،

وتجمع فتات الأيام لتصنع منه وطناً صغيراً لأطفالها.

 

"جيهان" لم تكن بطلةً في رواية،

كانت امرأةً تُحبّ زوجها، بيته، ضحكته، حضوره، وفوضاه.

كانت تُحبّ رجلاً لا يشبه أحداً،

رجلاً اغتالوه،

فاغتالوا معه قلبها.

 

منذ ذلك الصباح، تغيّر كلّ شيء،

البيت كما هو، لكن لا دفءَ فيه.

الأصوات كما كانت، لكنها باهتة.

الضحكات تأتي... لكنها قصيرة، متردّدة،

كأنّها تعتذر لأنّها جاءت من دون حضوره.

 

"جيهان"، التي كانت تتّكئ على صوته كي تنهض،

أصبحت تنهض من دون صوت.

تُخفي وجعها في عتمة المطبخ، في صوت الملاعق، في ترتيب الأسرة،

وفي الهدوء الذي يُرعب القلب أكثر من الضجيج.

 

في الليل، حين تنام المصابيح،

وتغفو الحدائق،

تبقى "جيهان" مستيقظة،

تحضن صغارها كأنّها تحضنه،

تُسند وجعها إلى وسادةٍ تعرف كم بَكَت،

وتُحدّق في الظلام كأنّها تنتظره… أن يعود، أن يفتح الباب، أن يعتذر عن الغياب.

 

لكن الباب لا يُفتح،

والصوت لا يعود،

والدموع لا تنتهي.

 

"جيهان" لا تطلب شيئاً،

لا تنتظر عدالةً، ولا ترفع صوتها،

هي فقط تُريد يوماً لا تبكي فيه أمام أبنائها،

ليلاً تنام فيه دون أن يخنقها البكاء،

وصباحاً لا يُذكّرها باللحظة التي انتهى فيها كلّ شيء.

 

لم تكن زوجة شهيدٍ فقط،

كانت امرأةً آمنت بأنَّ الحبّ لا يموت،

لكنّها عرفت أنَّ من نُحبّ يمكن أن يُنتزع منّا كأنّه لم يكن.

 

وأنَّ الحياة بعدهُ لا تُعاشُ،

بل تُجَرُّ كما تُجَرُّ بقايا الوقتِ في الممرّاتِ الضيّقة.

 

"جيهان" لا تكتب، لا تخطب، ولا تروي حكايتها في المنابر،

لكن دموعها تعرف كيف تكتب،

وصمتها أشدُّ بلاغةً من كلّ الخُطب.

 

اغتيل زوجها نزار بنات… واغتيل عمرُها معه.

ورغم كلّ ذلك،

ما زالت تقف،

تغرس الأمل في أولادها،

وتحمل اسمه كأنّه آخر ما تبقّى لها من الحياة.

 

لكن أكثر ما يُوجِع في حكاية "جيهان"،

أنّها لم تُودّعه.

لم تحتضنه للمرّة الأخيرة،

لم تقُل له: لا تتأخّر.

خرج ولم يلتفت،

وغابت الضحكة من بعده... إلى الأبد.

 

كلّ ما تبقّى لها الآن:

صورتُه على الحائط،

وصوتُه في ذاكرة الأطفال،

وذكرياتٌ لا يعرفها أحد،

ولا يفهمها سواها،

وشوقٌ لا ينطفئ،

يؤنس وحدتها كلّ ليلة،

ويُوقظها على غيابٍ لا يُطاق.

 

وفي آخر الليل، لا تبقى سوى "جيهان"...

تعدّ الأيام بلا نزار،

وتحرس الغياب كي لا ينساه أحد.

يأتيها نزار في المنام كلّما أغمضت عينيها،

يسألها عن "خليل"، ويوصيها بـ "كَشكَش"،

ويبتسم حين تذكر له "مارية"... آخر العنقود، ثم يرحل بصمت، ويتركها تغرق في دمعةٍ لا تجف.

 

[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

من نيبال إِلى غزّة: حين يُغلِقُ الحاكمُ أُذُنيهِ عن صرخاتِ شعبهِ!

القمع لا يقتل الأفكار، بل يورثها مزيداً من الاشتعال. وكل كلمة مكتومة تتحول جمراً تحت الرماد، تنتظر ريحاً صغيرة لتتحول ناراً تعصف ب… تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير