جيهان ونزار... وحدهُما في حُضنِ الغيابِ!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي ذاك الصباح، لم تكن "جيهان" تعلم أن الأمان سيغادر بيتها إلى الأبد.
كانت الأصوات تعلو من حولها، ضحكات الأطفال وهمس الذكريات، لكنها شعرت بوخز غريب في قلبها.
خرج نزار بابتسامة اعتادت رؤيتها كل يوم، لكنها لم تكن تعرف أنها آخر ابتسامة ستراها منه.
وتركها خلفه وحيدةً مع صمتٍ ثقيل، وغيابٍ لا يُملأ، وحياةٍ لن تعود كما كانت.
اغتيل نزار...
ليس فقط بالعتلات، بل بالصمت، بالخذلان.
تركها في ربيع صباها،
تخيط وحدها جرحاً لا يلتئم،
وتجمع فتات الأيام لتصنع منه وطناً صغيراً لأطفالها.
"جيهان" لم تكن بطلةً في رواية،
كانت امرأةً تُحبّ زوجها، بيته، ضحكته، حضوره، وفوضاه.
كانت تُحبّ رجلاً لا يشبه أحداً،
رجلاً اغتالوه،
فاغتالوا معه قلبها.
منذ ذلك الصباح، تغيّر كلّ شيء،
البيت كما هو، لكن لا دفءَ فيه.
الأصوات كما كانت، لكنها باهتة.
الضحكات تأتي... لكنها قصيرة، متردّدة،
كأنّها تعتذر لأنّها جاءت من دون حضوره.
"جيهان"، التي كانت تتّكئ على صوته كي تنهض،
أصبحت تنهض من دون صوت.
تُخفي وجعها في عتمة المطبخ، في صوت الملاعق، في ترتيب الأسرة،
وفي الهدوء الذي يُرعب القلب أكثر من الضجيج.
في الليل، حين تنام المصابيح،
وتغفو الحدائق،
تبقى "جيهان" مستيقظة،
تحضن صغارها كأنّها تحضنه،
تُسند وجعها إلى وسادةٍ تعرف كم بَكَت،
وتُحدّق في الظلام كأنّها تنتظره… أن يعود، أن يفتح الباب، أن يعتذر عن الغياب.
لكن الباب لا يُفتح،
والصوت لا يعود،
والدموع لا تنتهي.
"جيهان" لا تطلب شيئاً،
لا تنتظر عدالةً، ولا ترفع صوتها،
هي فقط تُريد يوماً لا تبكي فيه أمام أبنائها،
ليلاً تنام فيه دون أن يخنقها البكاء،
وصباحاً لا يُذكّرها باللحظة التي انتهى فيها كلّ شيء.
لم تكن زوجة شهيدٍ فقط،
كانت امرأةً آمنت بأنَّ الحبّ لا يموت،
لكنّها عرفت أنَّ من نُحبّ يمكن أن يُنتزع منّا كأنّه لم يكن.
وأنَّ الحياة بعدهُ لا تُعاشُ،
بل تُجَرُّ كما تُجَرُّ بقايا الوقتِ في الممرّاتِ الضيّقة.
"جيهان" لا تكتب، لا تخطب، ولا تروي حكايتها في المنابر،
لكن دموعها تعرف كيف تكتب،
وصمتها أشدُّ بلاغةً من كلّ الخُطب.
اغتيل زوجها نزار بنات… واغتيل عمرُها معه.
ورغم كلّ ذلك،
ما زالت تقف،
تغرس الأمل في أولادها،
وتحمل اسمه كأنّه آخر ما تبقّى لها من الحياة.
لكن أكثر ما يُوجِع في حكاية "جيهان"،
أنّها لم تُودّعه.
لم تحتضنه للمرّة الأخيرة،
لم تقُل له: لا تتأخّر.
خرج ولم يلتفت،
وغابت الضحكة من بعده... إلى الأبد.
كلّ ما تبقّى لها الآن:
صورتُه على الحائط،
وصوتُه في ذاكرة الأطفال،
وذكرياتٌ لا يعرفها أحد،
ولا يفهمها سواها،
وشوقٌ لا ينطفئ،
يؤنس وحدتها كلّ ليلة،
ويُوقظها على غيابٍ لا يُطاق.
وفي آخر الليل، لا تبقى سوى "جيهان"...
تعدّ الأيام بلا نزار،
وتحرس الغياب كي لا ينساه أحد.
يأتيها نزار في المنام كلّما أغمضت عينيها،
يسألها عن "خليل"، ويوصيها بـ "كَشكَش"،
ويبتسم حين تذكر له "مارية"... آخر العنقود، ثم يرحل بصمت، ويتركها تغرق في دمعةٍ لا تجف.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة