الدكتورة آلاء النجار... أُمُّ الشهداء وصبرُ الجبال في وجه العاصفة!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي زاويةٍ من هذا العالم، حيث تمضي الأيام ثقيلةً، مثقلةً بالدم والدمع، تقف امرأةٌ فلسطينيةٌ شامخة، تلبس الحزن عباءة، وتغزل من الدموع صبراً لا يُوصف.
الدكتورة آلاء النجار، لم تكن يوماً تبحث عن مجدٍ أو شهرة، لكنها وجدت نفسها تحمل لقباً لا تحمله إلا النساء العِظام: أُمٌّ لتسعةِ شهداء.
تسعةٌ من فلذاتِ كبدها ارتقوا إلى السماء، ارتقوا بصمت، تاركين خلفهم قلباً مكلوماً، وذكرى محفورةً في كل زاويةٍ من زوايا البيت... تسعُ أرواح، تسعُ وجوه، تسعةُ أسماء كانت تناديها "أمّي" بصوتٍ يشبه الندى، فإذا به اليوم يتحوّل إلى صدىً في المقابر: يحيى، وركان، ورسلان، وجبران، وإيف، وريفان، وسيدين، ولقمان، وسيدرا... أسماءٌ كانت تنبض بالحياة، فإذا بها اليوم تصل إلى قسم الطوارئ، حيث كانت تعمل بصمتٍ كطبيبة أطفال في مستشفى ناصر بخان يونس، تستقبل جثامينهم واحدةً تلو الأخرى، في مشهدٍ لا تحتمله الجبال.
كيف يُمكن لقلبٍ أن يتحمّل كل هذه الانكسارات دفعةً واحدة؟
زوجٌ وتسعة أطفال.
ما أقسى الرحيل حين يتكرّر، وما أوجعه حين يصبح عادةً في بيتٍ لا يغيب عنه نبضُ الحياة، إلا ليعود محمولاً على الأكفّ. لكن المرأة الفلسطينية لا تضعف، بل تشدّ قامتها كما الجبال، تقف في وجه الريح، وتكفّن حزنها بكبرياء، وتقول: "الحمد لله"، بينما كلّ شيءٍ في داخلها يصرخ.
آلاء النجار ليست حالةً استثنائية، بل هي صورةٌ متكررةٌ لنساء فلسطين: أُمُّ الشهيد، وزوجته، وشقيقته، وجدّته. هنّ نساءٌ لم يُخَيَّرن في الوجع، لكنه فُرض عليهن، فَحَمَلْنَه كما يُحمَلُ الوطنُ في القلب. وجعٌ لا يعرفه العالم، لكنه يعرفه ويتجاهله. وجعٌ لا يُكتَب في نشرات الأخبار، لكنه يسكن القلوب، في الصدور، في العيون.
أيُّ صبرٍ هذا الذي يحتمل أن تفقدي ولداً، ثم آخر، ثُمّ تمضي السُّنُونَ وأنتِ تُهيّئينَ نفسكِ لفراقٍ جديدٍ؟ أيُّ قلبٍ ذاك الذي لا يتوقّف عن الخفقان، رغم أن النبضات تمزّق داخله ألماً؟ هي لا تبكي أمام الناس، لكنها تنزف في الليل، حين لا يراها أحد.
المرأة الفلسطينية هي جبلُ المحامل، لا تهزّه العواصف، ولا تُنقص من عظمته الفواجع. تنحني للحظة، ثم تقف... تمسح دموعها، وتواصل طريقها بين ركام البيت، وبين قبور الأحبّة، وبين زغاريدِ الشهادة التي تُخنق في الحلق.
في وجه الاحتلال القاتل، وفي وجه الصمت الدوليّ المخجل، تبقى هذه المرأة عنواناً للفداء، ورايةً للكرامة، وشاهداً حيّاً على عجزِ العالم... وفي قلبها دعاءٌ واحد:
إلى الله المُشتكى.
وما كادت تلملم وجعها، وتربط جراح قلبها، حتى جاءها خبرٌ كالسهم في الصدر:
الدكتور حمدي النجار، رفيق دربها وزوجها، التحق بأبنائه التسعة إلى رحاب الخالدين.
يبدو أن قلبه لم يحتمل فراقهم، فلم يطل به البقاء، فلحق بهم على عجل، وكأن الروح قد سئمت البقاء في جسدٍ فقد كل ملامحه.
فاضت روحه وهو يردّد أسماءهم في صلاته، وكأنّه على موعدٍ معهم...
غادر بصمت، كما غادروا، وترك وراءه آلاء تواجه الليل وحدها، وحيدةً تماماً، إلا من الله، وألمٍ لا قاع له.
وهكذا تمضي آلاء النجار، كما تمضي آلافُ الأمهات في فلسطين، تحمل صورَ أبنائها وزوجها في قلبها، وتنتظر لقاءً في السماء، بعدما غاب اللقاء على الأرض. لا بيت يملؤه الضحك، لا مقعد في البيت إلا وتغمره الذكرى، ولا ليل يمرّ دون أن يغرس أنيابه في صدرها. رحل أحبّاؤها، وبقيت هي شاهدةً على وطنٍ ينزف، وشعبٍ يُذبَح، وأمّةٍ تصمت.
يبكيها القلب، ولا تواسيها الكلمات. وحده الله يعلم وجعها، وحده الله يسمع أنينها حين ينام الجميع. وفي هذا الخراب الممتد من بحر غزة إلى أزقّة القدس، تبقى هي أُمَّ الشهداء... أُمَّ الوجع الذي لا ينتهي، والدمعة التي لا تجف، والنداء الذي يرتفع من أعماق الروح:
يا رب... لا ملجأَ منك إلا إليك.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.


أضف تعليق
قواعد المشاركة