غزّة تمُوتُ ببُطءٍ... والعالمُ يغُضُّ الطّرف
محمود كلّم
كاتب فلسطيني
في زمنٍ تغيب فيه القيم، وتتبدد الأحلام، يعود صوت محمد الماغوط من خلف الرماد، لا كشاعرٍ فقط، بل كمرآة مكسورة نرى فيها وجوهنا، ومآسينا، وانكسار أرواحنا. ذلك المقطع الآسر من نصّه، المحمّل بالخذلان واللامبالاة، كأنه كُتب لغزّة، ولأولئك الذين ساقهم الزمنُ إلى امتحانِ التاريخِ والألمِ، من غيرِ وعدٍ، ولا استئذان.
"لا يهزّني نصر، ولا تذلّني هزيمة…"
في غزة، النصر لا يشبه النصر، والهزيمة لا تليق حتى بالهزيمة. الناس هناك لا يحتفلون بالتحرير، ولا يبكون الخذلان؛ لأن ما يعيشه الإنسان هناك أعمق من كل ما يمكن أن يُقال. صارت الحياة نفسها عبئاً فادحاً، واستمرارها معجزةً يوميّة.
"لا يُربكني احتلال، ولا يُسعدني استقلال…"
غزة اليوم ليست محتلة فقط بالجيوش، بل بالخذلان العربي، بالصمت الدولي، بالحصار القاتل، بالجوع، وبالعزلة القسرية. لا استقلال يُحتفل به، ولا حرية تُمارس، فقط مساحة جغرافية صغيرة تختزن في طيّاتها أكبر قدر ممكن من القهر. ما عاد الاحتلال خبراً صادماً، وما عاد الاستقلال وعداً قابلاً للتصديق.
"لا يشغلني تراث، أو حضارة، أو موقع استراتيجي…"
غزّة، بترابها وناسها، لم تعد تُقاس بجمالها التاريخي، ولا بموقعها الجغرافي، بل بعدد الشهداء، وعدد الأيام التي يمكن أن ينجو فيها طفل من قصف أو مجاعة. كل شيء أصبح مؤجّلاً، عالقاً بين السماء والأرض، حتى الحياة نفسها أصبحت أشبه بعقوبة جماعية.
"أي طعام آكل، وأي لباس أرتدي، ولأي طائفة أنتمي…"
أسئلة محمد الماغوط ليست تساؤلات وجودية هنا، بل تفاصيل يومية لأمٍّ تبحث عن كسرة خبز لرضيعها، ولشابٍ يحفر قبر أخيه بيديه، ولشيخٍ يُصلّي تحت الأنقاض. ما عادوا يهتمّون للطائفة، أو للسياسة، أو للانتماء. كلّ ما يريدونه هو أن يبقوا أحياء، أن يبقوا بشراً.
"حيث يدركني النعاس أنام كالحيوان…"
ما أقسى هذه الجملة في ظلّ القصف الليلي، حين ينام طفلٌ في حضن أمّه غير مدرك أنّ البيت قد يسقط فوقه في أية لحظة. ما أشدّها حين ينام الناس في الخيام بعد أن اختنقت منازلهم بالدخان. وما أمرّها حين يصبح الموت أسهل من الحياة.
"لا أحنّ إلى شيء، ولا أُبالي بشيء…"
ربما يكون هذا هو أكثر ما يختصر الحالة. ففي غزة، البكاء فقد جدواه، والغضب لم يُغيّر شيئاً، والحنين صار ترفاً لا يليق بمن يبحث عن جرعة ماء. لقد باتت اللامبالاة وسيلة للبقاء، لأن من يشعر بكل هذا القهر قد ينفجر بدلاً من أن يعيش.
نصّ الماغوط لم يُكتب لغزّة، لكنه وجد فيها موطئ قدم. لم يقصدها، لكنها تقمّصت كلماته، كما لو كانت غزّة هي القصيدة نفسها. واقعٌ يشبه اللامعنى، ومصيرٌ مُعلّق، ووجعٌ يصرخ بلا صوت.
ويبقى سؤالٌ يتردّد في أعماق قصيدته:
كم من الوقت يستطيع الإنسان أن يصمد وهو يموت في العلن؟
غزّة، وحدها تعرف الجواب.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة