للحزام الناري بقية تكتب بالدم لا بالحبر
سمية مصطفى علي
كاتبةبين حزن و نزح عكس الحروف...
ماذا لو استيقظتَ على أحدهم وهو ينام بجوارك لتجد نفسَك ملطخا بدمه، وجهه مهشمٌ متآكل، جمال وجهه متناثرٌ في أنحاء الغرفة، تنظر بجوارك لترى وجها تظن أنك لا تعرفه، مع أنك على يقينٍ أنك تعرفه، فلن ينام بجانبك إلا من تعرفه ويعرفك!!!
هذا بعضٌ مما حدث مع أحمد وزوجته
أحمد الشاب الوسيم الأنيق، صاحب ابتسامةٍ لا تفارق محياه، يحبه الصغار والكبار.
بعد صلاة الفجر.... كان نائما على سريره، بجواره زوجته وطفلتهما حنان التي قطفت من ربيع عمرها أربع زهرات - نأمل لها العمر المديد والعيش الرغيد -.
كانوا نائمين بين الخوف والقلق يحتضنهم الأمل والرجاء، كباقي الأُسر الغزيــــة، استيقظت زوجته على غبار قصــ.ــفٍ غطى الأرجاء، رائحة بارود استنشقتها هي والجنين في أحشائها، تأملت في الغرفة علَّها تجد تفسيراً لما يدور حولها، تلفتت يمنة ويسرة، نظرت حولها تستنجد الحضن الدافئ من زوجها، وجدت ابنتها، ولكنها لم تجد زوجها، وجدت وجها مغطىً بكل شيئ من الر.كام والشظا.يا وقطع اللحم المتناثرة.
هذا الوجه يجب أن يكون وجه زوجي، ولكن لِمَ هو هكذا؟
أين ذهب زوجي؟ ومن نام مكانه؟ وما هذا الحال الذي هو عليه؟
لم تجد جواباً لأسئلتها إلا بدخول أمه الغرفةَ فزعةً مسرعةً للاطمئنان على ابنها وعائلته، لتجده غارقاً في دمه وقد توزعت أشلاؤه في أنحاء الغرفة كلها، بل وتلاصق بعضها في شعر زوجته وملابس طفلته.
حينها طلبت الصبرَ من الله، والعوض، وقامت بما لا يستطيع رجالُ العالم فعلَه، جمعت أشلاء ابنها فلذة كبدها المتناثرة في كل أرجاء الغرفة، لملمت فتافيت دماغه المتبعثرة خارج جمجمته. لقد كانت بمقام رجل إسعافٍ وهب عمرَه لمثل هذه المشاهد التي يراها أكثرَ مما يرى أبناءه.
ومع كل قطعةٍ ترفعها وتضعها تسأل الله له القَبول والمغفرة، ولقلبها الصبرَ والسلوان.
وفي هذه الأثناء يحاول الأبُ دخولَ الغرفة ليطمئن، ولكنها تمنعه وتؤخره حتى تنتهيَ من مهمة المسعف الذي يُلملم جراحَ الأم الثكلى متناسيةً أنها هي الأم الثكلى بحدِّ ذاتها!!!
دخل الغرفةَ ليرى ما لم يتوقعه وما لم يكن في مخيلته إطلاقا ...
رحل عنه سندُه وظهرُه، رحل سرُّ أبيه وسر ضحكته وسعادته،
رحل بكرُه من الأولاد لتبقى ذكراه خالدةً فيهم.
على عجالةٍ انتهت مراسم الوداع والدفن، فـشــ.ــهيدنا مستعجلٌ للقاء ربه، روحه تطير مسرعةً لنعيمٍ لا ينضب.
افتتح بيتُ العزاء أبوابَه لاستقبال المعزين، ـــ أقصد المهنئين باستشــ.ــهاده ـــ كان المشهد مهيبا.... تجزِم أن كل جباليا ومحيطها قد حضروا مراسم الدفن والعزاء.
كانت كلمات أمه تبث الصبر واليقين فيمن حولها، دعواتُها تزرع فينا أملا ورجاء لا ينقطع..... تصمت برهةً ثم تجدها تطلب الصبر والعروض لزوجته، ثم تطلب الصبر لقلب والده المتعلق به حد الجنون، ثم تطلبه لبناتها وأولادها وقلبها النابض بحبه.
وليت الأمر ظل على هذا القدر، أستغفر الله، أعتذر، لن أقول ليت فهذا أمر الله وقضاؤه، وما علينا إلا الرضا والتسليم....
فمَن حزن نزح وما بين حزن ونزح إلا عكس الحروف وقلبها!!!
لقد اشتد القــ.ــصف، طالتهم القذ.ائف من كل حدبٍ وصوب، حملوا ما استطاعوا حمله من ضروريات النزوح، وهم أهل خبرةٍ فيه، حملوا أمتعَتَهم المثقلة بالهموم والأحزان كما قلوبهم، ورحلوا إلى مكانٍ يظن الناس أنه أكثر أمنا!!!! فتحوا بيت عزائهم، أرادوا الجلوسَ لحزنهم ومع حزنِهم، ناموا ليلَتهم الأولى ؛ أقصد نام الليلُ ليلته الأولى، أما هم فأنَّى لعيونهم النوم!!! أشرق الصباح، تناولوا ما يسد جوعَهم، جلسوا في نزوحهم مع حزنهم حتى حلَّت الليلةُ الثانية لنستقبلَها بصا.روخ زنا.نة صغير مصنوع لقتل واحدٍ فقط، ولكنه تجاوزه ليرتحل معه ثلاثةٌ آخرون لا علاقة لأيٍ منهم بالمقا.و.مة ولكنه قدر الله، ليُفتَح في الصباح بيتُ عزاءٍ ثانٍ بجوار الأول في الشارع نفسِه، وليلحقَ بهما بيتُ عزاءٍ ثالث في الليلة التالية لا يبعد عنهما إلا أمتارٌ قليلة، وهكذا أصبحنا نفتح بيوت العزاء على التوالي واحداً تلو الآخر دون أن ينتظر أحدُهما انتهاءَ السابق له....
رحل أحمد جسدًا من حضن أمه وأبيه وزوجته وأخوته.....
ابتعد جسدًا عن طفلته الجميلة المدللة وعن أخوته وأصحابه وأحبابه.
ارتحل ليلتقيَ بمن سبقه من شــ.ــهداء عائلته ويستقبلَ من سيلتحق به من شــ.ــهداء جباليا وغزززة.
صعدت روحُه لتلتقيَ بأخي الشـــ.ــهيد مصعب وأخوة زوجي طلعت وأبو سائد وغيرهم الكثييييير الكثييييير من أصحابه وأحبابه.
نعم ارتحل وفارق جسدُه دنيانا الزائلة، ولكنه ظل خالداً مخلدا تعيش ذكراه فينا حتى نلقاه على حوض الرسول صلى الله عليه وسلم فيستقبلَنا هناك حيثُ دار المقر والنعيم الدائم وما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فهنيئاً لأحمدَ ما نال من شرف الشـــ.ـــهادة وصبرا لقلب أمه وأبيه وزوجته، اللهم صبراً لقلوب أخوته وأخواته.
اللهم صبراً لقلوب أهله وأحبابه.
أضف تعليق
قواعد المشاركة