غزّة... النَّعشُ الذي يمشي وحدهُ
محمود كلّم
كاتب فلسطيني
تمشي غزّة في جنازتها اليومية، لا تحملها أكتاف المحبّين، بل يسحبها التاريخ مثخنةً بالخذلان. جدرانها تحفظ أسماء الشهداء أكثر مما تحفظ أسماء الأحياء، وطرقاتها تفتح ذراعيها للدم قبل الضوء. كلّ بيتٍ فيها مرقد، وكلّ طفلٍ سيرة نكبة، وكلّ نافذةٍ تُطلُّ على سؤالٍ موجع: هل ما زالت الحياة ممكنةً بين كلّ هذا الموت؟
في زمنٍ لم يكن للضعفاء فيه صوت، كانت غزّة تصرخ للعالم بأسره، لا تطلب شيئاً، بل تعطي كلّ شيء. كانت الشوارع تضجّ بالأعلام، والهتافات تعلو من حناجر صلبة، تهتف من أجل نيلسون مانديلا في زنزانته، ومن أجل نيكاراغوا البعيدة، ومن أجل كلّ مظلومٍ على هذه الأرض. كانت غزّة الصغيرة، المحاصرة بين البحر والخذلان، تفتح قلبها للعالم، ترسل حمضياتها وورودها، ترسل حبّها ونقاءها، وترفض أن تمدّ يدها إلا بالخير.
في شارع عمر المختار وحيّ الرمال، كانت التظاهرات تملأ المكان، وكانت البيوت تضيء بالأمل رغم الألم. غزّة لم تكن تعرف الفقر بمعناه اليوم، بل كانت غنيّةً بالكرامة، والشهامة، والكبرياء الذي لا ينكسر. كانت تتبرّع بالمال، وبالحبّ، وبالصوت، وبالموقف، وكانت تنتظر فقط أن يبقى العالم رحيماً، لكن يلعن هذا الزمان الذي يدور، ثمّ يدوس.
يلعنه حين يُميت القلوب، ويقلب الوجوه، ويجعل من العطاء لعنة، ومن الكرامة تهمة.
شوارعها غارقة في الدمار، أطفالها يحلمون بخبزٍ لا يأتي، وأهلها يمشون بين الركام، يجرّون خلفهم الذكريات. لا حمضيات تُصدَّر، ولا ورد يملأ الطرقات، ولا مال يُرسل للعالم.
اليوم، يطلب الناس في غزّة الدواء، والماء، والخيمة، وبعض الكهرباء.
أولئك الذين كانوا يخرجون لأجل العالم، من خرج لأجلهم؟
أولئك الذين وهبوا أصواتهم لكلّ مظلوم، من صرخ لأجلهم؟
أولئك الذين كانوا يعطون بلا حساب، لماذا تُركوا وحدهم يحصون أنفاسهم تحت الأنقاض؟
يا غزّة... يا أيقونة الكرامة، يا عاصمة الجرح، يا من كنتِ أمّاً للحرية... سامحينا.
فالعالم تغيّر، والناس تبدّلت، والحقيقة ضاعت في زحمة المصالح.
لكن يبقى لكِ المجد، وتبقى لكِ الحكاية التي لن تموت:
أنكِ كنتِ تعطين، حين بُخِلَ العالمُ كُلُّهُ.
أنكِ كنتِ تصرخين، حين صمتت الأرض.
أنكِ كنتِ حيّة، والآخرون موتى بضميرٍ غائب.
غزّة اليوم جريحة، لكنها لا تزال نبيلة.
تئنّ، لكنها لا تنحني.
تبكي، لكنها لا تذلّ.
وغداً، حين يُهزَم الظلم، ستعود غزّة كما كانت:
تعطي، ولا تأخذ، لكن أكثر ما يُوجِع في حكاية غزّة...
أن الذين أضاءوا العالم تُركوا في عتمةٍ موحشة.
أن الذين نادوا بالحرية لكلّ الشعوب، يعيشون اليوم خلف الأسلاك، بلا دواء، بلا ماء، بلا حضنٍ دافئ.
غزّة التي علّمتنا كيف نكون كباراً، تُهان اليوم بصمتٍ عالميٍّ مُخزٍ.
وغزّة التي علّمتنا الكرامة، تُذبَح كلّ يوم وسط خذلانٍ يُقطّع القلب.
تبكي غزّة، ولا يسمعها أحد.
تصرخ، لكن صوتها يضيع في صدى المصالح.
وتموت واقفة، لأنّ الركوع لم يكن يوماً من شيمها.
وحدها غزّة... تمشي في الجنازة، وهي الميتة.
وحدها غزّة... تُشيّع أحلامها، وتُقبّل أطفالها الراحلين، وتُكمل الطريق.
فمن لغزّة حين خذلها العالم؟
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة