شهد الصوّاف... صرخةٌ جائعةٌ في وجه أُمَّةٍ خذلتها!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي قلب غزّة المحاصرة، حيث يختنق الهواء برائحة الألم، وتغرق الأرض في دماء الأبرياء، تأتي قصة شهد الصوّاف، الطفلة التي لم تسرق، ولم تطلب إلا ثلاثة حبات زبيب، كصدى مؤلم لجوع عميق لا يُقاس بالمقاييس المادية فقط، بل هو جوع للكرامة، للأمان، للحق في الحياة. إنها قصة الطفولة التي تموت ببطء في ظل غدر وخذلان أمتين عربية وإسلامية، وتخاذل عالمي لا يُعرف له مثيل في تاريخ الشعوب.
شهد الصوّاف، بعينيها اللتين تفوحان برائحة البراءة والخذلان، تقول لنا أكثر مما تحكيه كلماتها البسيطة: "والله ما أنا حرامية، أنا جوعانة، جوعانة." هذه العبارة التي نطق بها قلب طفل بريء، ليست مجرد اعتراف بجوعها، بل صرخة موجهة إلى كل من خانها وخان وطنها وأمّتها. إنها رسالة قاسية بأن الأطفال هنا لا يسرقون، بل يُقتل جوعهم تحت أنظار من كان من المفترض أن يكونوا حماة لهم.
المأساة الحقيقية ليست فقط في الجوع أو في سقوط شهد مغشياً عليها من شدة الخوف، بل في الخيانة التي تلت ذلك.
خيانة أمة تحولت من ملاذ ودفء إلى مكان تخلّت فيه عن أبنائها، تخلّت عن فلسطين، عن غزّة، عن شهد نفسها. الخيانة التي تجسدت في صمتٍ مرعب، في صراعات داخلية أضعفت القضية، في حسابات سياسية جعلت الدم الفلسطيني سلعة للمساومات.
لقد شهدنا كيف تخلى بعض القادة عن مسؤولياتهم، كيف ابتعدوا عن واجبهم في الدفاع عن حقوق شعوبهم، وكيف سمحوا لمصالحهم أن تقتل الحق وتدفنه تحت ركام التخاذل السياسي. لم تكن غزّة فقط محاصرة بالجغرافيا، بل محاصرة بالسياسات التي اختارت أن تغضّ الطرف أو تساوم على دماء أبنائها.
أما المجتمع الدولي، فحدث ولا حرج. لقد شاهد العالم كله مآسي غزّة بكل قسوة، لكنه اختار سياسة الكيل بمكيالين، حيث تُعاقب الشعوب الضعيفة، ويُغض الطرف عن انتهاكات القويِّ.
بيانات الشجب الفارغة، والاجتماعات التي تكرر نفسها دون أي قرار فعلي، أضحت رموزاً للتخاذل العالمي. هذا الصمت هو خيانة جديدة بحق شهد وكل الأطفال الذين يشبهونها.
والأسوأ من ذلك، أن هذا الخذلان لم يقتصر على اللحظة الراهنة، بل هو استمرارية لسياسات الإهمال والتجاهل، التي تجعل من المعاناة حياة يومية لا تنتهي. فبينما يتناوب القصف والدمار، وبينما يتكرر المشهد المأساوي، يبقى صوت شهد وأطفال غزّة مكتوماً، وصورة جوعهم مخفية خلف جدران الحصار.
إنها معاناة إنسانية قبل أن تكون سياسية، وجع يتغلغل في أعماق النفس، يزرع اليأس، ويدفع الأطفال لأن ينسوا طفولتهم ويكبروا قبل أوانهم. صبر غزّة ليس فضيلة فحسب، بل هو صرخة متواصلة نحو من كانوا مفترضين أن يكونوا سنداً، لكنهم أصبحوا عبئاً.
لا يمكن لأي إنسان يحمل ذرة من إنسانية أن يغضّ الطرف عن قصة شهد الصوّاف. قصتها هي مرآة مرارة خذلان أمة، وغدر أصدقاء، وخيانة عالمٍ وقف متفرجاً بينما كانت حياة الطفولة تُزهق بلا رحمة.
يبقى السؤال المؤلم: كيف يمكن أن تستمر هذه المعاناة؟ وكيف لأمة تحترم نفسها أن تسمح باستمرار هذا الخذلان؟ وكيف لعالمٍ يزعم الدفاع عن حقوق الإنسان أن يتغاضى عن معاناة أطفال لا حول لهم ولا قوة؟
شهد الصوّاف ليست فقط طفلة فلسطينية، بل هي رمز لكل طفل يُقتل جوعاً، خوفاً، وخذلاناً. هي صرخة تطالب بالعدالة، بالحرية، وبإنسانية ضاعت في زحمة السياسة والمصالح.
وتبقى شهد الصوّاف رمزاً لبراءةٍ قتلها جوع الأمس وغدر اليوم، بينما تمضي الأوقات بلا حساب، ويستمر العالم في صمته المريب. غزّة التي كانت مهد الحضارة، أصبحت مقبرة للأطفال الحالمين، وصرخة حائرة تتردد في فضاءٍ لا يسمع سوى صدى الخذلان.
أما نحن، فلا نملك سوى أن نراقب بقلوب مثقلة بالوجع، وننتظر معجزة تنقذ الطفولة قبل أن تُدفن تحت الركام، قبل أن تموت أحلامها جائعة وحيدة، بلا وطن، بلا أمل، وبلا رحمة.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة