خوسيه موخيكا يغيب... وغزة تزداد نزفاً
محمود كلّم
كاتب فلسطينيترجّل خوسيه موخيكا، القائد الثوري والرئيس السابق لأوروغواي، عن صهوة الحياة بعد صراعٍ مرير مع سرطان المريء. غاب الرجل الذي علّم العالم أن السلطة ليست قصوراً ولا حراسة مشددة، بل هي عرقُ المزارعين، ودموعُ الفقراء، وكسرةُ خبزٍ يتقاسمها رئيس مع مشرّد في ليلة شتاءٍ باردة.
رحل موخيكا، الذي لقبوه بـ"أفقر رئيس مادياً في العالم"، لكنه في أعيننا كان أغناهم: بكرامته، ونقاء سريرته، وصدقه مع نفسه وشعبه. لم تُغره مقاعد الحكم، ولم يُبدّل مبادئه حين ارتدى بذلة الرئاسة؛ فبقي يرتدي المعطف ذاته، ويقود سيارته القديمة، ويعيش في كوخٍ بسيطٍ على أطراف العاصمة، حيث يزرع الورود... ويزرع الأمل.
وفي فلسطين... لا نملك رؤساء مثل هذا الرجل. نملك حدوداً مغلقة، ونوافذ مكسورة، ومخيمات مكتظة.
في الضفة... يُقايَض الهواء بتصاريح، وتُسحق الكرامة تحت وقع التنسيق الأمني المقدس.
وفي مخيمات الشتات... أطفال يولدون على الأرصفة، يكبرون بلا عنوان، يحملون مفتاح بيت لم يروه، ويُسألون عن وطنٍ لم يسكنوه... لكنه يسكنهم.
كم نحتاج اليوم إلى موخيكا! لا ليتبرع براتبه، بل ليعلّم من يحكمنا أن الكراسي لا تصنع الكرامة، وأن القصور لا تُشيَّد بها الأمجاد. نحتاجه ليفتح قصورهم المغلقة على آهات الناس، كما فتح قصره للمشرّدين. نحتاجه ليقول لمن يتاجرون بدمنا: "لا تصنعوا من القضية سُلّماً لأرصدة بنكية، بل اصنعوا منها درباً للحرية".
في رحيله، تذكّرنا كم أصبح الموت عادلاً أكثر من الحياة. فهو يأتي للجميع، لكنه حين يخطف العظماء، يتركنا مع الأسى ومرارة المقارنة. كيف لحاكم بسيط في أقصى أمريكا الجنوبية أن يعرّي عورات حكّامنا؟ كيف لرئيسٍ مزارع أن يفضح ترف الملوك، وجمود الساسة، وبلادة العروش؟
خوسيه موخيكا... سلاماً لروحك الثائرة.
سلاماً من أطفال غزة الذين يفتّشون في ركام بيوتهم عن طيفٍ مثلك.
سلاماً من شيوخ الضفة الذين تاهت أعمارهم في الانتظار.
سلاماً من مخيمات اللجوء التي ما عادت تعرف الفرق بين الموت والحياة.
نم قرير العين... فقد كنت لنا حلماً عن رئيس لا يخون.
غزة، التي تنزف كل يوم، لا تبكي شهداءها فقط، بل تبكي أيضاً خذلان القريب قبل بُعد العدو؛ أولئك الذين باعوها على طاولة المصالح، وتركوا أطفالها يكتبون وصاياهم بالدم لا بالحبر.
وفي خضمّ هذا العالم، حيث يموت العظماء بصمت، يبقى واقعنا الفلسطيني يئنّ بلا أذنٍ تسمع، ولا ضميرٍ يصحو.
في غزة تُقصف الأحلام قبل البيوت،
وفي الضفة تُسرق الأرض شبراً شبراً،
وفي مخيمات الشتات يُورَّث الحنين كما تُورَّث مفاتيح البيوت المغتصبة.
نعيش على فتات الكلام، نحلم بقيادةٍ تشبه موخيكا: لا تسكن القصور، بل القلوب؛ لا تنطق بالشعارات، بل تفعل.
لكننا — بكل وجعنا وشتاتنا — ما زلنا هنا، نكتب أسماءنا على الجدران، ونزرع شهداءنا في التراب، علّنا يوماً نحصد وطناً.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة