الإنسان الفلسطيني: المعجزة التي هزمت السلاح!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي زمنٍ طغت فيه أصوات البنادق على نداءات الفكر، وغابت فيه القيم الإنسانية خلف أبخرة البارود، يبرز مبدأٌ خالد: "أهم صناعة هي صناعة الإنسان، فهي أقوى من صناعة السلاح." هذا المبدأ لا يبدو مجرد شعار، بل حقيقة تتجلى بوضوح في ملحمة الشعب الفلسطيني، الذي ما زال، رغم المحن، يصنع من ذاته سلاحاً أقوى من كل ترسانة.
منذ أكثر من سبعة عقود، لم يتوقف الاحتلال عن استخدام أقسى أدوات العنف والتدمير، معتقداً أن تفوق السلاح كفيل بطمس الهوية ومحو الوجود، لكن الواقع أظهر أن الشعب الفلسطيني لا يُهزَم بالبندقية، لأنه اختار أن يستثمر في صناعة الإنسان: في الإيمان، والوعي، والصمود، والمعرفة، والثقافة، والإبداع.
في المخيمات، وفي ظل الحصار، ووسط الدمار، وُلدت أجيال من المثقفين، والأطباء، والمعلمين، والشعراء، والمخترعين. لا شيء يمنع الفلسطيني من التعلم، حتى تحت القصف. دفاتر الأطفال تتحول إلى رموز مقاومة، والمدارس المدمّرة تُستبدل بصفوف مؤقتة على الأنقاض، لأن هذا الشعب أدرك أن معركته الحقيقية ليست فقط مع الرصاص، بل مع محاولات سلخه عن ذاته.
في المقابل، يعتمد الاحتلال على آلة عسكرية ضخمة: طائرات، ودبابات، وتكنولوجيا تجسس، وجدران إسمنتية، وسجون، لكنه فشل في كسر إرادة إنسان يؤمن بقضيته. كل معتقل فلسطيني يخرج من الأسر أكثر وعياً وثقافة، وكل بيت يُهدم يتحول إلى قصة بطولة، وكل شهيد يُولَد من دمه ألف حكاية تُبقي القضية حيّة في قلوب الأحرار.
لقد تحوّل الفلسطيني من ضحية إلى صانعٍ لملحمة إنسانية. باتت روايته تنافس رواية الإحتلال المدعومة بأضخم آلات الإعلام. وأصبح وجوده بحد ذاته تحدياً، لأنه اختار أن يقاوم عبر الكلمة، والتعليم، والتمسك بالتراث، والابتكار.
في غزة، حيث يظنّ العالم أن لا حياة، خرج من تحت الركام شعراء يصدحون باسم الأرض، ومهندسون يبتكرون حلولاً للصمود، ونساءٌ يُربّين أجيالاً لا تنكسر. هنا تكمن القوة الحقيقية: صناعة الإنسان الحر، الواعي، المثقف، المبدع.
كلما اشتد الحصار، ازداد هذا الشعب صلابة. وكلما ظنّ الاحتلال أنه اقترب من طمس الوعي، خرج الفلسطيني من تحت الركام أكثر إشراقاً، وأكثر تمسكاً بإنسانيته وهويته. إن الشعب الفلسطيني لا يحتاج إلى شفقة العالم، بل إلى أن يُنصت له، وهو يصنع الحياة من بين أنياب الموت.
نفتخر بهذا الشعب العملاق، الذي علّمنا أن القوة لا تُقاس بعدد الدبابات، بل بقدرة الإنسان على النهوض بعد كل نكسة، وعلى تحويل الألم إلى وعي، والدم إلى قصيدة، والحصار إلى مدرسة.
مسكينٌ شعبُنا الجبّارُ العظيم صاحب التضحيات...
أنت في وادٍ، ومن يدّعون تمثيلك في وادٍ آخر.
لكن، رغم الخذلان، يبقى هو الأجدر بالتحية، والأحق بالقيادة، لأنه لم يتخلَّ يوماً عن حلمه بالحرية، ولم يتنازل عن كرامته.
في وجه السلاح، ظل الإنسان الفلسطيني هو المعجزة التي لن تُهزم، والنموذج الذي سيسجّله التاريخ بكل فخر.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.


أضف تعليق
قواعد المشاركة