إنزو مايوركا أنقذ دلفيناً... فمن يُنقذ غزّة؟
محمود كلّم
كاتب فلسطينيحين أنقذ إنزو مايوركا دلفيناً... بكى البحر على غزّة.
في عام 2009، روى الغطّاس الإيطالي الشهير إنزو مايوركا قصة هزّت وجدان كل من سمعها. كان يغطس مع ابنته روسانا قبالة سواحل سيراكوزا، حين لمس دولفين ظهره. لم تكن لمسة للّعب أو اللهو، بل نداء استغاثة صامت.
قاده الدولفين إلى الأعماق، حيث كان دولفين آخر عالقاً في شبكة صيد مهجورة، يتخبّط بين الحياة والموت.
بسكين صغيرة وإرادة كبيرة، تمكّن إنزو من تحريره. وعند الصعود إلى السطح، وضعت أنثى الدولفين صغيرها في لحظة مؤثّرة. أما الدولفين الآخر، فدار حول منقذهم، ثم اقترب ولمس وجنة إنزو بلطف، كأنما يهمس له بشكرٍ صامتٍ لا يُنسى، قبل أن يختفي مع أسرته في عمق البحر.
في الحياة، هناك شعوب بأكملها عالقة في "شبكة" أشدّ فتكاً من شباك الصيد.
في غزّة، لا دولفين ينتظر مولوده، بل أمّ تحتضن أطفالها تحت الأنقاض.
لا صوت شكر يصعد من الأعماق، بل صرخات تتردّد في الأزقّة المدمّرة، لا يسمعها أحد.
لو كان للبحر قلب، لبكى.
ولو كان للشبكات لسان، لاعترفت بأنها ليست سوى جزء من صمتٍ عالميٍّ مخزٍ.
أنقذ إنزو روحاً واحدة، وفي غزّة تُزهَق الأرواح بالجملة، والعالم يتفرّج.
الدولفين عرف كيف يطلب النجدة، أما طفل غزّة، فكل ما يملكه نظرة تشقّ القلب.
الدولفين لمس وجنة منقذه بشكر، أما طفل غزّة، فلا يجد وجنة يلمسها... فالموت كان أسرع.
قال إنزو يوماً:
"ما لم يتعلّم الإنسان احترام الطبيعة والتواصل مع الكائنات، فلن يفهم يوماً دوره الحقيقي على هذه الأرض."
وأنا أقول: "ما لم يتعلّم الإنسان احترام الإنسان، فلن يستحقّ أن يُدعى إنساناً".
غادر الدلفين إلى عرض البحر.
أما غزّة... فمتى تغادر الألم؟
متى تلمس الحرية وجنةَ طفلٍ فلسطيني؟
متى يأتي "إنزو" لهذا الشعب العالق، ليقطع شِباك الحصار وينتشله من القاع؟
حتى إشعارٍ آخر، تبقى غزّة تنظر نحو السطح، تختنق... ثم تتنفّس بالحلم.
وهكذا يمضي الفلسطيني، لا يحمل على ظهره حقيبة سفر، بل يحمل وطناً ممزّقاً بالخرائط، مثقوباً بالذكريات.
يمضي من محطة إلى أخرى، كأنّ عمره قطار لا يعرف نهاية،
من لجوء إلى لجوء،
من مخيّم إلى مخيّم،
من خيمة إلى خيمة،
ومن نكبة إلى نكسة، إلى مجزرةٍ جديدة.
كلما حاول أن يلتقط أنفاسه، باغته الغبار، وكلما رسم حلماً، محته قذيفة.
حتى الدموع – التي يُقال إنها تريح القلب – لم تعد تكفي.
وغزّة... تلك البقعة الصغيرة، تحوّلت إلى مرآة لكل وجعٍ عربي.
كل حجر فيها شهيد،
وكل شجرة أمٌّ تبكي،
وكل طفل يسأل:
"هل سنعيش غداً؟ أم نكمل الرحيل؟"
شلال الدم لم يجف،
والعالم يراقب بصمتٍ مخزٍ.
لكن، رغم الألم، ما زال الفلسطيني، في أقسى محطات القهر، يرفع رأسه،
لأن من تعلّم أن يولد في الخيمة، ويحيا على الرماد،
ويغنّي وسط الركام...
لا تموت قضيّته.
تنويه: هذا النصّ تخييليّ تعبيريّ، لا يروي حادثةً بعينها، بل يستلهم من وجع الواقع رموزه، ومن جراح فلسطين حروفه، ليبوح بحزنٍ لا يسع الكلمات، عن شعبٍ تُحاصره القذائف... ويخذله العالم.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة