لا تصالح... أمل دنقل والقصيدة التي تنزف من غزة!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيمنذ اثنين وأربعين عاماً، غاب عن الدنيا صوت لم يُهادن، ولم يُساوِم.
أمل دنقل، الشاعر الذي كتب "لا تصالح"، ورحل، لكنه لم يغادر. لا تزال كلماته تتردّد في كل ساحة ظلم، وكل بيتٍ دُمّر، وكل طفلٍ يُقتل في حضن أمه.
في 21 مايو 1983، رحل جسد أمل دنقل، وبقيت روحه تسكن في قصيدته، تسكن في "لا تصالح"، تلك الصرخة التي انطلقت من قلب شاعرٍ مريض، لكنها أصابت قلب أمة بأكملها، فبقيت حيّة، متأججة، تتجدد مع كل طعنة في جسد الأمة.
واليوم، ونحن نشهد ما يحدث في غزة من مذابح يومية وانهيارات إنسانية، لا يمكننا إلا أن نسمع أمل دنقل يصرخ من جديد: لا تصالح.
غزة، هذا الجرح النازف في خاصرة العالم العربي، هي القصيدة التي لم يكتبها أمل دنقل، لكنها تحمل روحه، وصوته، وألمه.
غزة التي لا تتوقف عن تقديم الشهداء، والتي يُطفأ فيها النور، ويُقطع عنها الماء والدواء، تُشبه الغرفة رقم 8 التي كتب منها أمل دنقل أجمل وأوجع قصائده، لكن غزة لم تُمنح فرصة لتدوين وجعها، بل تُدفن قصائدها مع أجساد أطفالها.
كان أمل دنقل يرى في الشعر وسيلةً للمقاومة، للبقاء، للاستمرار.
واليوم، حين نعجز عن الكتابة، عن الحلم، عن الحياة، تأتي قصائده كصفعةٍ توقظ فينا ما تبقّى من كرامة.
"لا تصالح، ولو منحوك الذهب"... وكأنّه يكتب عن حكّام اليوم، عن الساكتين، عن المتواطئين، الذين يبيعون ما تبقّى من قضيةٍ وشعب.
رحل أمل دنقل في زمنٍ كانت فيه الأمة تبحث عن نبض، وها نحن اليوم نعيش زمناً تُسلخ فيه القضايا من معناها، ويُقتل فيه الأمل كما يُقتل الأطفال في غزة، لكن لا يزال صوته يقول:
"لا تصالح... ولو قيل إن التصالح حيلة
إنها الحربُ، قد تُثقل القلبَ، لكن خلفك عارُ العرب."
ورحل أمل دنقل، وبقيت قصيدته كوصيةٍ معلّقة في عنق الزمن، نُرددها كلما ضاقت بنا الأرض واشتدّ الألم.
أما غزة، فهي لم ترحل، لكنها تموت كل يوم، بصمت العالم وصمت الضمير.
وفي ذكرى رحيلك يا أمل دنقل، نرفع رؤوسنا بك، ونخفضها خجلاً من واقعنا.
نم قرير العين في ترابك، فأنت قلت ما يجب أن يُقال... أما نحن، فما زلنا نبحث عمّن يجرؤ على أن يقول:
"لا تصالح... ولو توّجوك بتاج الإمارة... كيف تخطو على جثةِ ابنِ أبيك؟"
وكلّ غزة... أبناءُ أبينا.
وغزة؟
غزة لم تعد تنتظر النصر، بل تنتظر أن يمرّ الليل دون أن يُقصف بيت، أن يولد طفل دون أن يُدفن، أن تنام أم دون أن توقظها صرخة فجيعة.
في غزة، لم يعد للدمع وقت، ولا للحداد متّسع، فالمآسي تتوالد بلا فواصل، والموت صار جزءاً من تفاصيل الحياة.
هناك، لا يُسأل المرء: "كيف حالك؟" بل: "كم شهيداً فقدت اليوم؟"
غزة، التي تعيش على حافة المقابر، وتنهض من بين الأنقاض، لا تنتظر كلماتنا، بل تنتظر أن نصحو من صمتنا.
لكن... ما أثقل هذا الصمت.
وما أقسى أن تبقى غزة وحدها، تقاتل عن شرفٍ أضعناه، وتحرس ذاكرةً نحن أول من خانها.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة