خلف الحمير… إلى الهاوية!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي وطنٍ لا تزال دماؤه رطبة على الإسفلت، وحناجره مبحوحة من كثرة النداء، يبدو أن السير نحو الهاوية قد أصبح عادة متوارثة. لا نسأل عن الاتجاه، ولا عن الذي يقود، فكل ما نفعله أننا نمشي… نمشي خلف من تقدم الصفوف، حتى لو كان لا يرى ولا يُدرك. نُقَاد كما القطيع، نخطو بثقة نحو الهاوية، ونكتفي بترديد: "هذا هو الطريق."
هكذا وجدتُ نفسي أمام حكاية كتبها يمنيٌّ عن قريته، لكنها بدت وكأنها كُتبت عنا نحن — عن قريتنا الكبرى: فلسطين. فكان لا بد أن أكتب… تحت هذا العنوان:
خلف الحمير… إلى الهاوية
في كتابه "نحن والحمير في المنعطف الخطير"، كتب الأديب اليمني محمد مصطفى العمراني عن قصة موجعة من قريته، حيث كان الأهالي يسلكون طريقاً وعراً محفوفاً بالموت للوصول إلى عين الماء، يتبعون فيه الحمير التي تقودهم في مسار خطير يمر بجانب وادٍ سحيق، تسبب في وفاة عدد من الأطفال بعد أن سقطوا مع الحمير إلى القاع. وحين سألهم الكاتب، وقد سقط هو نفسه مراراً في الوادي عندما كان طفلاً يذهب مع حماره إلى العين، عن سبب تمسّكهم بذلك الطريق رغم وجود طرق أكثر أماناً، جاءه الجواب صادماً:
"نحن نمشي خلف الحمير، وهي من تسلك بنا ذلك الطريق."
وكأن العمراني لم يكتب عن قريته اليمنية، بل وصف حالنا نحن في فلسطين.
نعيش في وطن ممزق، تحت احتلال لا يعرف الرحمة، وتحت قيادة تدّعي تمثيلنا، بينما لم تصل إلى مواقعها إلا على ظهر اتفاقيات مذلّة، وبمباركة من المحتلّ نفسه. قيادة تسير أمامنا وتزعم أنها تعرف الطريق، لكنها في الحقيقة تمشي خلف الحمير؛ خلف مصالح ضيقة، وأوامر تصدر من غرف التنسيق الأمني المقدس، ومن أوهام الدولة والسلام.
سقط منا الشهداء كما سقط أولئك الأطفال في وادي القرية. نزفنا أرواحنا في الانتفاضات، في المخيمات، على الحواجز، وفي البيوت التي هُدمت على رؤوس ساكنيها. ومع كل نزف، نسأل: لماذا لا نسلك طريقاً آخر؟ طريق المقاومة الحقيقية، طريق الوحدة، طريق الشعب الذي لم يساوم يوماً على قضيته؟
لكن، كما في قصة العمراني، تأتينا الإجابة صادمة:
"نحن نمشي خلف الحمير."
المنعطف الفلسطيني خطير، والهوة أمامنا تتسع، وأرواح أبنائنا لا تزال تُزهق، والقيادة التي نصّبت نفسها باسم "الشرعية" لا تزال تجرّنا إلى الهاوية، لأنها ببساطة لا ترى إلا ما تراه الحمير: ظل الجدار، ظل الكرسي، وظل الوهم.
نحن بحاجة إلى لحظة وعي جماعية، نرفع فيها رؤوسنا عن خطى الحمير، ونبصر الطريق الحقيقي، ذلك الذي يُكتب بدماء الشهداء لا بحبر المفاوضات، ويُرشدنا إليه الأسرى لا أولئك المترفون.
فإن لم نفعل، سنبقى نسير في هذا المنعطف، نسقط واحداً تلو الآخر، ونُدفنُ في وادٍ لم نَختَر حتى أن نعرف اسمهُ.
وها نحن، بعد كل هذه السنوات، لا نزال ننتظر على قارعة الطريق، نُشيّع أبناءنا، ونرمم بيوتنا، ونبكي في زوايا وطنٍ مكسور. نمشي بخطى مثقلة، لا نسأل إلى أين نمضي، ولا نجرؤ على رفع رؤوسنا لنرى الحقيقة كاملة. لقد ألفنا المنعطف، وألفنا السقوط، حتى صار الموت مألوفاً، والخذلان تقليداً سياسياً.
وربما سيأتي يوم يسألنا فيه طفل فلسطيني: لماذا لا نسلك طريقاً آخر؟
ويخيفني أن يكون جوابنا، كما أجاب أولئك الوجهاء:
"نحن نمشي خلف الحمير."
حينها، سيكون الجواب أكثر إيلاماً من السقوط نفسه.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة