معين بسيسو... الشاعر الذي مات في المنفى وظلّ صوته في فلسطين
محمود كلّم
كاتب فلسطينيمعين بسيسو، الشاعر الفلسطيني، لم يكن مجرد كاتب أو أديب، بل كان ذاكرة حيّة لفلسطين المخنوقة بالحديد والنار. مات في لندن، بعيداً عن غزة التي أحبّها حتى الاحتراق، ولم يجد له قبراً في تربتها، كما لم يجد الشعب الفلسطيني حتى اليوم وطناً كاملاً يأويه. كان موته شبيهاً بموت كثير من الأحلام الفلسطينية: صامتاً، في غرفة باردة، بعيداً عن الدفء الوحيد الممكن — دفء الأرض التي وُلد منها، والتي كان يحلم أن يُدفن فيها.
حين توقفت أنفاس معين بسيسو في المنفى عام 1984، أُصيب رفاقه برعشة الموت الغريب، وبدأوا يتساءلون: أين سندفن موتانا؟ لم يكن السؤال عن القبور فقط، بل عن الأرض التي صودرت، عن الخريطة التي أُحرقت، عن الهوية التي تُسحق كل يوم تحت جنازير الاحتلال. كانت غزة يومها محتلة، كما هي اليوم، وإن بأشكال جديدة: بالحصار، بالدم، بالخوف، بالخيانة.
غزة التي كتب عنها معين لم تكن كهذه التي نراها اليوم؛ كان يراها شيئاً يشبه القصيدة: حيّة رغم الجراح، عنيدة رغم الجوع.
أما اليوم، فهي مدينة مثقوبة، مثقلة بالموت، تُقصف وهي تصلّي، وتُدفن وهي تنجب. غزة اليوم لا تحتاج إلى شعر لتبكي؛ تكفيها صور الأطفال تحت الركام، وعيون الأمهات المُعلّقة في السماء.
معين، الذي كتب عن الزنازين والسجون، كان يدرك أن المنفى الأوسع ليس خارج الوطن، بل داخله — حين لا تجد مكاناً لتصرخ، حين تخاف من القصيدة، من الحقيقة، من المرآة. وقد ترك في دفاتر فلسطينية سيرة وطنٍ بأكمله، لا سيرة رجلٍ فحسب. كتب عن السجن، عن الرفاق، عن الأمل المحروق، عن وطن مشطور إلى منفى وحنين، عن حزبٍ كان يحلم بالعدالة، فاستفاق على ضياع كل شيء، ما عدا الكلمات.
يقرأ القارئ الفلسطيني اليوم محاكمة كتاب كليلة ودمنة، فلا يرى فقط مسرحية، بل يرى محاكمات غزة الداخلية، ويرى في صمت العالم تكراراً أبدياً للمهزلة. كأن معين لم يكتب زمنه فقط، بل كتب الأزمنة القادمة — حيث يُحاكَم الأمل، ويُعدَم الخيال، وتُباع الحقيقة في مزادات السياسة.
رحل معين كما يرحل الفقراء، دون ضجيج رسمي، دون وداع يليق بشاعرٍ من طين البلاد. رحل في مدينة لا تشبه شوارع غزة الضيقة، ولا رائحة بحرها، ولا صراخ أطفالها. وكما كان خائفاً من أن يُنسى في المنفى، تُنسى أعماله اليوم بين أرشيفات الغبار؛ لا يُدرّس كما يجب، ولا يُحتفى به كما يستحق، وكأن النسيان عقوبة تُضاف إلى الموت.
لكن الشعر لا يموت. يظلّ نبضاً ساخناً في يد قارئٍ يتألم، أو في صدر شابٍ يبحث في الأنقاض عن بيتٍ كان.
يظلّ معين حيّاً في قصيدة تقول إن الأرض لا تموت، وإن المنفى مؤقت، وإن القبر الحقيقي هو النسيان.
اليوم، في ظل الخراب الذي يلفّ غزة، في ظل الغارات والنكبات المتكررة، يعود معين لا كشاعر فقط، بل كنداء.
نداءٌ يقول إن هذا الشعب، الذي علّق صوته على حبال الانتظار، لا يزال يكتب، لا يزال يحلم، لا يزال يدفن شهداءه في المقابر ذاتها التي لم تجد لجثمان معين مكاناً.
في ذكرى رحيله، نقرأه لنحزن، ونحزن لنكتب، ونكتب لأن هذا الشعب، الذي مات أكثر من مرة، لا يزال يُولد من جديد، كما القصيدة، كما غزة، كما معين بسيسو.
ورحل معين، وظلّت غزة تنتظر. لم يودّع بحرها، ولا مشى في زقاقها الأخير، ولا انحنى على ترابها ليلقي السلام. ظلّ الحنين بين يديه قصيدة ناقصة، تتعثّر كلما ناداها من المنفى، وتبكي كلما اشتاقت لصوته.
كان يقول: "غزة، إذا لم أُدفن فيكِ، فاجعلي قصيدتي شاهداً على قبري."
لكن القصيدة وحدها لا تكفي، ولا السماء تكفي لمن كان يريد الأرض، كلّ الأرض، ولو موضعاً بحجم جسده المنهك.
معين بسيسو...
بقي في الغربة جثماناً، وفي غزة روحاً، وفي شعره... فلسطين التي لا تغيب.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.


أضف تعليق
قواعد المشاركة