غزة تتسلّم الطحين... إن بقي أحدٌ ليستلمه!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيتوزيع مساعداتٍ على وقع القصف: خطة "أمان وكفاءة" بنكهة دخان الفسفور!
في تطوّر دراماتيكي بطابعٍ من الكوميديا السوداء، أعلن السفير الأمريكي لدى الاحتلال عن آلية جديدة لتوزيع المساعدات في غزة، تمتدّ إلى 400 نقطة توزيع، وكأن سكان غزة بحاجة إلى مزيد من "النقاط" في لعبة البقاء على قيد الحياة.
ووفقاً للتصريحات، فإن الاحتلال لن يشارك في التوزيع المباشر، بل سيكتفي بدور "المتفرّج المسلّح" على حدود مناطق التوزيع. أما من سيتولّى تأمين المساعدات، فهم شركات أمن خاصة، ما يضفي طابعاً هوليوودياً على المشهد: مساعدات إنسانية بنكهة مرتزقة، وربما مشهد مطاردة بين علبة تونة وطائرة درون.
يُذكر أن الخطة مدنية بالكامل، وقد وافق عليها عدد من الشركاء الدوليين، بينما رفض آخرون مشاركة الاحتلال، ربما لأن من الصعب توزيع الحليب على طفل يختبئ من قذيفة.
اللافت أن الحديث عن "أمان وكفاءة" يأتي فيما لا تزال أصوات الانفجارات تشكّل الخلفية الموسيقية لعمليات التوزيع، وكأننا أمام تجربة واقعية لبرنامج "توب شيف"، ولكن مع تحدّي القصف والنجاة من المجاعة.
المجتمع الدولي – مشكوراً – يبدو أنه قرّر أخيراً التحرّك، ولكن بخطى محسوبة، ومؤتمراتٍ صحفية أكثر من أكياس الطحين.
أما سكان غزة، فهم مدعوّون لحضور عرض المساعدات الكبير، بشرط ألّا يكونوا قد دُفنوا تحت الأنقاض بعد.
وفي الركن الصامت من الخريطة، تتلو الحكومات العربية بياناً جديداً مليئاً بالحزن العميق، والقلق البالغ، مرفقاً بصورةٍ من قمة عربية في فندق خمس نجوم.
أما الشعوب، فقد اكتفت بإعادة تدوير المنشورات، ونشر دعاءٍ مصحوبٍ بمقطع مؤثر، قبل العودة إلى مسلسل تركي أو مباراة دوري.
العالم الإسلامي؟ لا يزال في طور التنسيق والاجتماع والتشاور، بانتظار فتوى تحدّد ما إذا كان إرسال بطانية يُعدّ تدخّلاً سياسياً.
وهنا، يدخل القانون الدولي متأخراً كعادته، يرتدي بدلته الرسمية، ويحمل في يده نسخة مهترئة من اتفاقيات جنيف، يتلوها بصوت جهوري لا يسمعه أحد تحت الأنقاض.
أما حقوق الإنسان، فقد تقاعدت مبكراً، وتحوّلت إلى ملصق تزييني في قاعة اجتماعات، يُشير إليه الدبلوماسيون وهم يمرّون نحو البوفيه المفتوح.
الغارات لا تُزعج القانون، بل تُرجئ فقط تنفيذ العدالة... إلى ما بعد الموت.
المساعدات قادمة، ولكن عليك أن تكون حيّاً لتستلمها، وأن تكون محظوظاً كي لا تُقتل أثناء انتظارها.
وكما يقول المثل الجديد في غزة:
"من عاش من القصف... مات من الطابور."
وهكذا، بينما يجتمع العالم في لجانٍ فخمة، ويختلف على لون الشاحنات التي ستحمل الطحين،
يبقى طفل في غزة يعدّ ما تبقّى من أقراص الخبز، كأنها أيامه الأخيرة.
قد تصل المساعدات، وقد تصل الكاميرات، وقد تصل التعازي،
لكن الأمل... غالباً ما يُحتجز على أحد الحواجز، بلا تصريح دخول،
ولا شفاعة من زعيمٍ عربي، أو مؤتمرٍ إسلامي، أو حتى جدارٍ يرحم.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة