غزّة ومغولُ العصر... وقلوبُنا المُحصّنةُ بالصّمت

منذ أسبوع   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

حين غزا المغولُ معاقل المسلمين، لم يكونوا وحدهم من نشر الخراب. ساعدهم كثيرون ممّن ظنّوا أنفسهم أذكى من الموت، فراسلوا الغزاة، وقدّموا لهم الولاء، وفتحوا لهم أبواب المدن، ثم وقفوا يتفرّجون .

ولم يدركوا أن المغول كانوا يحتقرون الخونة أكثر من خصومهم، وأن دورهم في الطعن سيأتي، ولو بعد حين.

 

اليوم، في غزّة، يتكرّر المشهد، لكن على مرأى من عالمٍ يتشدّق بالتحضّر. يُذبَح الأطفال تحت الأنقاض، وتُمحى العائلات من السجلات، وتُحاصر الأجساد والأنفاس، بينما تتقاطر رسائل الولاء من العواصم، ويتكاثر المصفّقون لقاتلٍ لا يشبع.

 

ليس غريباً أن يغدر العدو، لكن الغريب أن نغدر نحن. أن نُبرّر المجازر، أو نصمت عنها، أو ننتظر أن يُباد الجميع حتى نشعر بالحزن. أن نُغنّي في حفلاتنا، ونُشاهد مبارياتنا، ونستهلك أيامنا، وكأنّ غزّة ليست من الجسد، ولا من الدم.

 

من يشاهد غزة تُباد، ولا يتألم، ولا يغضب، ولا يتحرك فيه الوجع شيئاً، فقد مات قلبه، أو تأجل موته.

 

ومن يظنّ أن النار لن تصل إلى بيته لأنه "محايد"، عليه أن يُراجع دروس التاريخ: المغول لم يُبقوا حيّاً، حتى من قدّم لهم الولاء.

 

فلا تكن من الذين قالوا: "الحمد لله، نحن بخير"، بينما كان جارُه يدفن أبناءه بيديه.

 

غزّة ليست مجرّد امتحان للعدو، بل امتحان لنا: هل ما زلنا بشراً؟ أم بتنا حجارةً صمّاء لا ترتجف عند سماع اسمها؟

 

وغزّة... ما عادت مدينةً فحسب، بل أصبحت جرحاً مفتوحاً في ضمير العالم، وصوتاً مخنوقاً لا يُجيد أحد سماعه. كل ليلة تُدفن طفولة، وتُطفأ روح، ويُهدَم بيت، بينما تمضي الحياة في العواصم كما لو أن شيئاً لم يكن.

 

ما يُغيَّب عن الشاشات، يبقى محفوراً في ذاكرة التراب.

 

وغزّة، وإن انكسرت جدرانها، فإنّ أرواحها لا تنكسر.

نحن الذين نخسر، حين نخذلها، حين نصمت، حين نتظاهر بأنّ وجعها لا يعنينا.

 

غزّة لا تموت... نحن من يموت في كلّ مرة نخذلها.

 

حين تنتهي الحكاية، لن يُكتب في السطر الأخير أن غزة انتصرت أو انكسرت، بل سيُكتب: "مات ضمير العالم، وكانت غزة شاهدة جنازته."

سيُكتب: "صرخت غزة حتى بحّت، لكن الجدران كانت أسمع من البشر."

وسيظلّ التراب الذي ابتلع الأجساد أحنّ من أيدينا التي لم تُمدّ، ولم تحتضن، ولم تذب في وجعها.

غزة ستبقى، بصوتها المشروخ، بحجارتها التي لا تنكسر، لكننا...

نحن من سيتلاشى من كتب الحياة، لأننا لم نكن بشراً حين احتاجتنا الإنسانية.

 

[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

 

 

 

 

مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

معين بسيسو... الشاعر الذي مات في المنفى وظلّ صوته في فلسطين

معين بسيسو، الشاعر الفلسطيني، لم يكن مجرد كاتب أو أديب، بل كان ذاكرة حيّة لفلسطين المخنوقة بالحديد والنار. مات في لندن، بعيداً عن … تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير