الخُذلانُ يتكرّر... من جبل أُحد إلى رُكام غزّة!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي كل مرحلةٍ من مراحل الأمة، يتغيّر شكل المعركة، لكن يظل الوجع ذاته، ويتبدّل العدو، لكن يبقى النفاق حاضراً في الصفوف.
من جبل أُحد، حيث انكسرت السيوف أمام خيانة القلوب، إلى غزّة، حيث تنهار البيوت تحت صمت الأقربين... يتكرّر المشهد، ويتجدّد الجرح.
هذا المقال ليس تأريخاً لغزوة، ولا توثيقاً لنكبة، بل صرخة قلب يرى في تكرار الخذلان جرحاً لا يندمل.
في غزوة أُحد، سالت دماء الصحابة، وتناثرت أجسادهم على أرض المعركة، وارتقى أسد الله حمزة، واهتز قلب المدينة حين دخلها النبأ الثقيل: "النبي قد قُتل"¹.
كان يوماً حزيناً في تاريخ الإسلام، لكن الحزن الأكبر لم يكن في السيوف التي مزّقت الأجساد، بل في القلوب التي خانت، والصفوف التي انقسمت، والظهور التي انحنت للريح بدلاً من أن تصمد².
عبد الله بن أُبيّ، رأس النفاق، لم يحتمل أن يُقاتل لأجل قضية لا يرى فيها مصلحته، فانكسر قبل أن تبدأ المعركة، وسحب معه ثلاثمئة رجل من وسط الصف³.
لم يكن العدو وحده أمام المسلمين، بل كان فيهم؛ يُضعف العزائم، ويُفرّق الكلمة، ويَبثّ الشك، وينتظر الهزيمة ليقول ببرود: "لو أطاعونا ما قُتلوا"⁴.
واليوم... تتكرّر أُحد في غزّة، لكن بلا جبل أُحد، بلا سيوف، بلا دروع... فقط لحمٌ ودمٌ، وبيوتٌ تهوي فوق رؤوس أصحابها، وأطفالٌ يستيقظون في قبورهم، وأمهاتٌ يودّعن أبناءهنّ عند الباب فلا يعودون.
غزّة تُقاتل وحدها، وتنتصر وحدها، وتُذبح وحدها⁵.
وفي الأمة كثيرٌ من عبد الله بن أُبيّ:
من انسحب من المعركة قبل أن تبدأ،
من سحب الدعم، وخنق بالحصار، وشارك في خنجر الطعنة،
من قال: "هم السبب، لو سكتوا لما قُتلوا، ما جدوى الصواريخ العبثية؟"
تماماً كما قال المنافقون في أُحد⁶.
كم هو مُرٌّ أن نُخذَل من الداخل قبل أن نُهاجم من الخارج...
وكم هو قاسٍ أن يكون العدو على الحدود، لكن النفاق في القلب.
غزّة لا تبكي من نار العدوّ بل من عينٍ ترى... وتختار العمى،
ومن الألسنة التي تُدين الضحية وتُبرّر الجلاد⁷.
ثبَتَ النبي صلى الله عليه وسلم، وجُرح وجهه، وكُسرت رباعيّته، لكنه لم ينكسر⁸.
وكان هناك رجال لم يفرّوا، لم يتراجعوا، بل وقفوا حتى الرمق الأخير.
وكذلك اليوم، في غزّة، هناك من لا يملكون شيئاً إلا الإيمان...
لكنهم به يصنعون المعجزات⁹.
تبقى غزّة جرحاً مفتوحاً في قلب الأمة، تنزف في كل لحظة، ولا أحد يضمدها.
تبقى أوجاعها تتكرّر على مسامع عالمٍ أصمّ، وعينٍ عمياء، وقلوبٍ تكلّست من كثرة الخذلان.
يموت الطفل في حضن أمّه، ويُدفن الشهيد بلا كفن، وتُهدم البيوت على من فيها،
ثم يُسدل الستار، ويعود النائمون إلى نومهم العميق¹⁰.
لكن غزّة لا تنام...
غزّة تبكي، تصلّي، تصبر، وتنتظر.
تنتظر نصراً من الله، لا من البشر،
لأنها عرفت أنَّ معظمهم... قد باعوها¹¹، لكن أكثر ما يُوجع، أن يموت الطفل في غزّة مرتين:
مرةً تحت الركام، ومرةً في ذاكرة أمةٍ اعتادت النسيان.
أن تُطفأ البيوت، وتُكتم الصرخات، ويُغلق الباب على جرحٍ لا يسأله أحد:
"هل ما زلتَ تنزف؟"¹²
غزّة لا تطلب كثيراً... فقط ألا تُباع، ألا تُنسى،
ألا تكون ضحيةً جديدة في حفلات التصفيق لجلاديها.
وإن كانت أُحد قد انتهت في التاريخ،
فإن غزّة ما زالت تُقاتل، وحدها، ضد جيشين:
واحدٌ يأتي بالدبابات... وآخرُ يأتي بالصمت.
غزّة تنادي، لا لتُنقَذ، بل لتُذكّرنا أننا خذلناها مراراً...
وأننا، إن لم نستفق، سنكتب أُحداً جديدة... كل يوم.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.
.................................
الهوامش والمراجع
1. ابن هشام، السيرة النبوية، فصل غزوة أُحد.
2. محمد الغزالي، فقه السيرة، ص216، تحليل أسباب الهزيمة.
3. ابن كثير، البداية والنهاية، ج4، ص27.
4. القرآن الكريم، آل عمران: 168.
5. تقارير المنظمات الإنسانية في غزة، وواقع الحصار (راجع: الأونروا، 2023).
6. تفسير ابن كثير، تفسير الآية نفسها، والربط بالمنافقين.
7. عبد الوهاب المسيري، الصهيونية والعنف الرمزي.
8. صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب: غزوة أحد.
9. مالك بن نبي، شروط النهضة.
10. تقارير الشهداء في غزة، مركز الميزان لحقوق الإنسان.
11. خطب وبيانات علماء فلسطين، رابطة علماء المسلمين.
12. باسل الأعرج، مقالات متفرقة في المقاومة والذاكرة.


أضف تعليق
قواعد المشاركة