حين تُصبحُ النّكبةُ في غزّة خبراً بلا ذاكرة
محمود كلّم
كاتب فلسطينيلم يعُد اللاجئ الفلسطيني في الإعلام العربي سوى مشهدٍ مألوف: خيمة، وطفلٌ يبكي، وركام. غابت الحكاية، وتاهت الأسئلة الكبرى في زحمة الصور والعناوين المستهلكة. كيف تحوّلت نكبتنا إلى خبرٍ موسمي؟ وكيف أصبح اللاجئ غريباً حتى عن قضيته؟
في هذا النص، محاولة لفهم الخلل في التغطية، واستعادة المعنى من بين أنقاض اللغة.
كأنَّ اللاجئ الفلسطيني لم يكن يوماً إنساناً.
هكذا تُصوّره بعض الصحف، بعض الفضائيات، بعض المقالات التي تُكرِّر الخطاب ذاته: أرقام، موجات، معاناة موسمية تعود إلى الواجهة في ذكرى النكبة أو حين تنفجر أزمة هنا أو هناك. بينما هو، في الحقيقة، يسير بين الركام، يحمل الوطن في عينيه، ويبحث عن وطنٍ لا يستقبله.
في الصحافة الفلسطينية والعربية، لاجئ اليوم ليس هو ذاته الذي شُرِّد عام 1948. لقد تغيّرت الصورة، لا لأن الواقع تغيّر، بل لأن الكاميرا اختارت زاويةً أكثر بُروداً، وأكثر خضوعاً.
اللاجئ بات "قضيةً إنسانية" فقط، لا قضيةً وطنية. تسربت الحكاية من النصوص إلى التقارير، من الأغنية إلى الشريط الإخباري العابر، ثم إلى هامش الهامش في نشرات الأخبار.
وفي غزّة، حيث تَسكن المأساة وتفيض، يعيش اللاجئ الفلسطيني في سيناريو متكرّر: بيتٌ يُهدم، وخيمةٌ تُنصب، وطفلٌ يُدفن، وصورةٌ تُلتقط. ثم تُنشر تحت عنوانٍ جاهز: "غزّة تُعاني… مجدداً"، لكنّ أحداً لا يسأل: لماذا نُعاني؟ من الذي طردنا؟ ومن الذي ما زال يحاصرنا؟
الصورة الذهنية التي تُنقل للشباب العربي اليوم لا تحمل ذاكرة، بل شفقة عابرة، لا تُحرّك الغضب بل تُخدّره.
اللاجئ الفلسطيني اليوم، في خطاب الإعلام العربي، يبدو غريباً حتى عن قضيته. يُقدَّم أحياناً كرقمٍ في جدول إحصائي عن الفقر، أو كمشهدٍ مأساوي في حملة تبرعات. لم تعُد المخيمات تُذكّرهم بيوم النكبة، بل بيوم الفقر. لم تعُد مفاتيح البيوت رمزاً للعودة، بل دلالةً على الأبواب التي لن تُفتَح أبداً.
في غزّة، لا نُشاهد القضية، بل نعيشها. ننام معها في الخيمة، ونحملها في جنازاتنا. ومع ذلك، يمرّ الصحفي العربي في تغطيته كمن يمرّ أمام مرآةٍ مكسورة: لا يرى الحقيقة كاملة، بل يرى شظاياها، ثم يغادر دون أن ينزف ، لكن وسط هذا الركام الإعلامي، تبرز بعض الأصوات التي ما زالت تُقاوِم. وسائل الإعلام المقاومة – سواء كانت محليّة في غزّة أو منصّاتٍ حرّة عبر الفضاء الرقمي – تُحاول أن تُعيد تعريف اللاجئ، لا كضحيةٍ فقط، بل كصاحب حق، كإنسانٍ يرفض أن يُمحى من الخريطة ومن الذاكرة. هذه الوسائل لا تتحدث عنّا بلسان الغريب، بل تنقل نبضنا من قلب الألم، من المخيم، من الحارة التي احترقت، ومن المئذنة التي سقطت، وبقي صوت المؤذن يصدح في تسجيلٍ قديم.
ومن بين هذه الأصوات، تبرز وسائل كـ"قناة الأقصى" و"الميادين" و"فلسطين اليوم"، التي لا تكتفي بتغطية الحدث، بل تربطه بسياقه التاريخي والسياسي والوطني، فتُذكّر الشباب العربي أن ما يحدث في غزّة ليس مجرّد كارثةٍ إنسانية، بل امتدادٌ لنكبةٍ لم تنتهِ بعد.
هذه القنوات تُواجه الحصار بالصوت، وتُقاوم التعتيم بالبثّ، وتُعيد صياغة الخبر على هيئة مقاومةٍ لا تُهادن.
كما أن المنصات الرقمية، مثل
شبكة " العودة الإخبارية "، وصدى الشتات وصفحات المقاومة الشعبية على "تلغرام" و"إنستغرام"، بدأت تأخذ دوراً محورياً في إعادة سرد الحكاية، بلغةٍ شبابية، وبصورٍ من عمق المواجهة، تكسر الحصار الإعلامي المفروض على غزّة، وتنقل الواقع كما هو: دمٌ، وخبزٌ ناقص، وطفلٌ يُصرّ على رفع العلم تحت القصف.
الإعلام المقاوم لا يُجمّل الصورة، ولا يُتاجر بالبكاء، بل يُواجه بالوضوح. هو الذي يقف في مواجهة رواية الإحتلال، لا ليوازنها فقط، بل ليفضحها. هو من يُعيد ربط الشباب العربي بجذور القضية، ويُصرّ على أن يضع خارطة فلسطين كاملةً في الخلفية، لا نصفها الغربي فقط، ولا بقاياها السياسية.
وفي زمنٍ اختلطت فيه الأخبار بالبروباغندا، بات الإعلام المقاوم أشبه بصرخةٍ في صحراء، لكنها صرخة تعرف طريقها. تُصرّ على أن اللاجئ ليس مشهداً موسمياً، بل هو قلب المعركة، ومفتاح العودة، وخارطة الطريق إلى التحرير. تُصرّ على أن الطفل الذي استُشهد في غزّة، لم يمُت في حادثٍ غامض، بل قُتِل لأنّه فلسطيني، ولأنه ما زال يحلم بالعودة إلى بيتٍ في يافا.
قد لا تملك هذه الوسائل الكثير من الإمكانات، لكنها تملك ما هو أهم: الصدق، والانتماء، والقدرة على أن تُربك العدو وتُحيي فينا شيئاً من الكرامة.
وهي، في وجه هذه العتمة، تحاول أن تكون الضوء الذي لا يُشترى، ولا يُباع.
وهكذا، كما في غزّة، نغرق في الحزن مرتين: مرّة حين نفقد أبناءنا، ومرّة حين نقرأ أخبارنا بعيونٍ لا تُشبهنا.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة