هل يمُوتُ نوح في طُوفانه؟! فلسطين وثباتُ الأَنبياء
محمود كلّم
كاتب فلسطينيوَقَالَ اركَبُوا فِيهَا بِسمِ اللَّهِ مَجرَاهَا وَمُرسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجرِي بِهِم فِي مَوجٍ كَالجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الكَافِرِينَ (42)
– القرآن الكريم، سورة هود، الآيتان 41-42.
في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، يُواجهُ أهلُ الحقِّ طوفاناً من الظلم، وتبقى معركةُ البقاء مُحتدمةً بين الطغيان والصُّمود.
هكذا كان حالُ نوح عليه السلام، الرجل الذي حمل رسالة النجاة وسط أمواج الغدر والسخرية، وهكذا هو حالُ فلسطين اليوم، تُصارعُ الاحتلال والحصار، وتحملُ سفينتُها جراح شعبها وأحلام أجيالها.
في قلب العاصفة، حين تلاطمت الأمواجُ كأنّها جبال، وحين جفَّت الأرضُ ماءها، ورفعت السماءُ ظلالها، كان نوح، نبيُّ الصبر والمقاومة، واقفاً على متن سفينته، واثقاً بوعد الله، ثابتاً كالجبل. فهل يُعقلُ أن يغرق في الطوفان الذي جاء ليُنقذه ويُهلك الظالمين؟
تُشبهُ فلسطين نوحاً؛ فهي لا تغرقُ، ولا تموتُ، بل تُصارعُ الطوفان جيلاً بعد جيل، رغم الأعاصير وغدر الطغاة، وتبقى السفينةُ التي تأوي أبناءَها، والأرضُ التي تأبى أن تُقتلع جذورُها.
في أرض الرباط، تنبُتُ الأشجارُ من عروق الشهداء، وتتحوّلُ دموعُ الأمهات إلى ينابيع حياة، ويتحوّلُ الحجرُ إلى صرخةٍ تُزلزلُ أركان الظلم.
وكما وقف نوح ثابتاً رغم تكذيب قومه وسخرية أعدائه، يقفُ الفلسطيني اليوم صامداً رغم الاحتلال والحصار، لم يركع، ولم يُساوم، ولم يبع بيته أو عِرضَه، بل ظلَّ يُجددُ العهد مع الأرض، يُقبِّلُ ترابها، ويزرعُها بالأمل كما يزرعُها بالقمح والزيتون.
وفي هذا المشهد البطولي، يتجلّى الطباق بين الحياةِ والموت، بين الثبات والانهيار، بين النور والظلام.
وكما ينحتُ الجناس بين الكلمات جمال المعاني، فإنّ فلسطين تنحتُ من الألم أملاً، ومن المحنة منحةً، ومن الدمار بناءً جديداً. فالكرامةُ ليست شعاراً يُرفع، بل حياةٌ تُعاش، وشهامةُ الرجال ليست مجرّد كلمات، بل دماءٌ تُسكبُ على أعتاب الأقصى، وأجسادٌ تُفرَشُ تراب المخيّمات.
إنّ فلسطين هي نوح الذي لا يغرق، بل ينجو رغم كثرة الطوفان، وهي الحُلمُ الذي لا يُقتل مهما حاولوا اغتياله، وهي الصوتُ الذي لا يَبُحُّ مهما تعالت أصواتُ الطغاة.
في كلِّ حجرٍ يُرفع، في كلِّ دمعةٍ تسيل، في كلِّ يدٍ تُرفَعُ إلى السماء داعية، يتجدَّدُ الوفاءُ لقضيةٍ لم تمُت، ولن تموت.
فالأرضُ تشهد، والسماءُ تشهد، والتاريخُ لا يُغلقُ صفحاته أمام من كتبوا سطوره بدمائهم وأحلامهم.
لكن، إلى متى؟ إلى متى يظلُّ الطوفان يحصدُ الأرواح، ويغمُرُ الديار، ويُغرِقُ الأحلام؟ إلى متى يظلُّ نوح الفلسطيني يُصارعُ الموج وحده، بينما العالمُ يقفُ متفرِّجاً على السفينة وهي تتهاوى؟ هل ستظلُّ فلسطين تُبحرُ في بحر الظلم بلا شاطئ؟ أم أنّ الطوفان هذه المرّة لن يهدأ حتى يبتلع كلَّ شيء؟
لعلَّ السفينة تغرقُ يوماً، لعلَّ الأمل يتلاشى، ولعلَّ القلوب التي اعتادت الصبر تفقدُ نبضها، ويظلُّ السؤالُ مُعلّقاً بين السماءِ والأرض:
هل يُعقلُ أن يموت نوح أخيراً في طوفانه؟
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة