من أَعماق القبر... الشهيد نزار بنات يُحاكمُ "رئيس الوزراء السّابق"
محمود كلّم
كاتب فلسطينيمن حيثُ لا صوت يُسمع، ولا جسدٌ يتحرّك، يعلو صوتُ الشهيد.
ليس صدى ذِكرى، بل صرخةُ حساب، من روحٍ لم تهدأ، ولن تهدأ.
في ظُلمة القبر لا يسكُنُ الصّمت، بل تبدأ محاكمةٌ لا قُضاة فيها... إلا الحقيقة.
ها هو الشهيد نزار بنات، شهيدُ الكلمة والموقف، يبعثُ برسالته من عُمق التّراب، إلى من ظنَّ أن القبر نهاية.
يا محمد اشتية،
حين كنت تُعدُّ أوراق الموازنة،
كنتُ أنا أعدُّ أنفاسي الأخيرة.
وحين دخلت مكتبك الخشبيَّ،
دخلتُ أنا نعشي الخشبيَّ.
كنت تنامُ على وسائد "القرارات السيادية"،
ونحنُ كنا ننامُ على رصيف الأسئلة.
لم أركَ في جنازتي،
لكنني شعرتُ بك...
كنت تمرُّ فوق دمي
كما يمرُّ التكييفُ في مكاتب "المقاطعة":
باردٌ، غيرُ مُبالٍ، عديمُ الرائحة.
يا محمد،
لا تتجمَّل الآن بالصّمت،
فالصّمتُ لا يصلحُ نعياً بعد الفضائح.
كنت تعرف.
كنت تقرأ التقارير.
كنت تسمع أنيني في الزنازين،
ثم تمضي لتنسِّق "التقارير الدولية".
يا محمد،
هل أخبروك أني كنتُ أخافُ على الوطن،
وأنت كنت تخافُ على الميزانية؟
هل كتب لك أحد،
أن المقصلة كانت "إدارية"،
والمشانق "بروتوكولية"،
وأن القاتل يملأ أوراق اعتماده من وزاراتكم "السيادية"؟
قُل لي،
أيها الأستاذ في "الاقتصاد السياسي"،
كم تُقدِّرُ قيمة الإنسان
الذي يقولُ كلمة؟
هل يُخصمُ من مخصّصاته؟
هل يُشطبُ من جدول الرواتب؟
هل يُصنَّف "غير منسجمٍ مع الرؤية العامة"؟
نحنُ تحت التراب،
لا نطلبُ سوى أن تكتبوا على قبورنا:
"هنا دُفنت الحقيقةُ...حيّة."
أمّا أنتم،
فعيشوا فوق الأرض كما تشاؤون:
وزراء، وكلاء، مستشارين...
لكن لا تنظروا في أعين أطفالنا،
ففيها بقايا خجلٍ لا تعرفه مناصبُكم.
يا محمد،
حين تسقطُ ورقةُ التين،
ينكشفُ كلُّ شيء:
الراتب، الكرسي، الابتسامة،
وحتى القصائد التي كتبتها عن فلسطين،
بين اجتماعين.
أنا لا أعاتبك،
فالمناصبُ تفعلُ أكثر من هذا.
أنا فقط أضحك،
ضحكة ميّت،
على حكومةٍ لا تستطيع حماية حنجرة.
وأضحكُ أيضاً،
على "حماة الوطن"
الذين لا يستطيعون حماية جُرن تاريخي في بيت لحم،
فكيف سيحمون ذاكرة وطن؟
يا محمد،
في القبر،
لا حاجة لنا بخطط تنمية.
يكفينا أن نحيا في ذاكرة الناس،
وأن نموت واقفين.
أمّا أنتم،
فأحياءٌ تسيرون في مواكب رسمية،
إلى موتٍ بلا اسم.
هل تُشاهدني في منامك، يا محمد؟
أتعرفُ هذا الوجه المجبول بالحقيقة؟
أنا هناك...
بين جفونك المتعبة من تلميع الأكاذيب.
لا تقلق،
لستُ مستعجلاً،
فأنا... أنتظرُك،
عند الحاكم العادل،
الذي لا تُغلقُ عنده الملفات،
ولا تُنسى عنده الأصوات.
وصدق أبو العتاهية
حين كتب على جدار السجن:
"إلى ديّان يوم الدين نمضي...
وعند الله تجتمعُ الخصومُ."
هذا النص، وإن كُتب بلغة الأحياء، فلا يعدو كونه صوتاً تخييلياً لصديقٍ موجوع، اسمه محمود كلّم، كتب بجرح القلب عن رفيقٍ اسمه نزار بنات، رحل صامتاً تحت التراب، فحاول أن يُعيد إليه الصوت؛ لا ليُواسي موته، بل ليُدين صمت الأحياء.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة