من تحت التراب... الشهيد نزار بنات يكتب لمحمد اشتية
محمود كلّم
كاتب فلسطيني"قالوا: صمتُ الشهداء أبلغُ من خطاباتِ الساسة.
قلت: بل صراخُهم من تحت التراب أشدُّ وقعاً، لأنه لا يخاف الرقيب."
من نفس القبر، الذي ضاق حتى على موتي، أبعث إليك يا محمد.
نعم، إليك أنت. الرجل الذي ارتدى بدلة "رئيس الوزراء"، وصعد المنبر مبتسماً، بينما كنتُ أُغسَّل بدموعي ودمائي في سرداب التحقيق.
صافحتك أنت أيضاً، لا بيدي هذه المرّة، بل بصوتي المبحوح، ذاك الذي تجاهلته في مؤتمراتك الصحفية المُبهرة بالديكور .
رأيتك تفتح ملف الاقتصاد الفلسطيني، وتُغلق ملف الكرامة.
تحدثت عن "خطط الصمود"، بينما كان المواطن يصمد فقط في طابور الراتب المقطوع.
يا "دولة الرئيس"،
كيف كنت تنام ملء جفونك، بينما تُداس أصواتُنا في الليل؟
هل سمعت شخير الأمن الوقائي وهو يُنهي تقريره اليومي عن "منشور خطير على فيسبوك"؟
هل قرأت تقرير المخابرات عن "نية نزار بنات في إحداث رأي عام"؟ يا للرعب!
من تحت التراب، لا أملك سوى الكلمة.
وأنت، من فوق الكراسي الدوّارة، لا تملك سوى صمتك اللامتناهي.
وهنا، تأمّل: من الأكثر حرية في قول الحقيقة؟ من مات أم من يحيا مقيداً بمنصبه؟
صمتك، يا محمد، كان ضجيجاً يفتك أكثر من صوت الرصاص.
كنتَ تعلم... وسكتَّ.
كنتَ ترى... وابتسمتَ.
كنتَ شريكاً... لا باليد، بل بالصمت.
وهل الصمت حيادٌ؟ أم شراكة؟ أم جريمة؟
هل تذكر؟
وجهك على الشاشات حين أعلنت "إصلاحات" حكومتك؟
أذكّرك: كنتَ تعدّل قانون "حُسن السيرة والسلوك"، حتى لا يتسلّل أمثالي إلى العمل العام، فقد كنتُ "غير مناسب".
نعم، لأنني صرخت. لأنني قلت إن الشعب لا يأكل التصريحات، ولا يسكن في المؤتمرات، ولا يدفن شهداءه في خطابات المصالحة.
وسؤال آخر، يا محمد...
لماذا قطعتَ رواتب الأسرى والشهداء في غزة؟
أي عقلٍ هذا الذي يساوي بين "العقوبة الجماعية" و"القرار المالي"؟
هل أصبحت غزة هي الخصم؟ أم أن الدم هناك بلا رصيد في بنك الوطنية؟
هل تحوّلنا إلى ملفات مالية تتراكم على مكتبك، تمحوها بكلمة "أزمة"، ثم تنام؟
وهل يُدار الوطن كحساب مصرفي؟ أم كأمانة أخلاقية؟
وماذا عن لقاحات كورونا؟
تلك التي وصل بعضُ جرعاتها للمحظوظين فقط،
بينما بقي المواطن العادي يتنفس الوباء، وينتظر دوره خلف جدار الواسطة.
وذاك التصريح الشهير: "بدكم وطن أكثر ولا مصاري أكثر؟"
كم كنا سُذّجاً حين ظننا أن الوطن ليس خصماً من الراتب،
وأن الكرامة لا تُخصم من الفاتورة!
فهل باتت الوطنية ترفاً على فاتورة الدولة؟
تحدّث إلينا، يا محمد...
عن مفاوضات الظل، عن التنسيق الأمني المقدّس، عن الدولة التي تسير "بخُطى ثابتة نحو السراب".
قل لنا، كيف توازن بين حبك للمناصب وحبك للوطن؟
أم أنك تعلم جيداً: لا أحد يجيد الجمع بينهما دون أن يذبح أحدهما قرباناً للآخر؟
وهل مناصبكم سلّمٌ للوطن، أم شماعةٌ لتأجيل الحقيقة؟
محمد،
من يُدير دولة من "التكنوقراط" لا يحتاج قلباً، بل آلةً حاسبة.
لكننا لسنا أرقاماً، ولسنا ميزانية ناقصة.
نحن موتى، لكننا نتكلم.
نحن موتى، لكننا نُحاسب.
وهنا السؤال الصارخ: هل فقدنا البوصلة خلف لغة "الكفاءة"؟ وهل صارت البرودة سمةً للحكم؟
تخيّل، يا محمد، أنك كنت تقرأ بيانات "استنكار" مقتل نزار بنات،
بينما كان قاتلي يرتشف قهوته في مكتبٍ مكيّف.
أي عدالةٍ هذه التي تقف في طابور "التنسيق الأمني المقدّس"؟
أي وطنٍ هذا الذي يُدار كمؤسسة استثمارية، يوزّع المناصب ويبيع القضية بالجملة والمفرق؟
الآن تجلس في الصفوف الخلفية، تكتب مذكراتك على مهل،
عن سنوات "الإدارة الرشيدة"، وأنت تعلم أن البلاد كانت تُدار كمتجر.
هل ستكتب عن نزار بنات؟
أم ستمحو اسمي كما مُسحت وجوه كثيرة من أرشيف العدالة؟
أيها الراحل عن المنصب،
اعلم أن المناصب لا تُخلّد، بل تُحاسَب.
وسيأتي يومٌ، يقرأ فيه أحدهم هذا النص، ويقول:
"كان هناك رجل يُدعى نزار بنات، سُحق لأنه تكلّم. وكان هناك رئيس وزراء... لم يقل شيئاً."
فمن منا، يا محمد، كان حياً حقاً؟
تمتّع بحياتك، يا محمد...
مدّد سنواتك كما تشاء، عش في مؤتمرات التنمية، وبين دفاتر الأرقام، وتفنّن في كتابة خطابات "المرحلة المقبلة".
اشرب قهوتك، غيّر ربطة عنقك، استقبل الوفود بابتسامتك المعتادة.
لكن، تذكّر...
مهما طالت حياتك في الدنيا، ومهما جمّلتها بالمناصب والظهور،
أنا في انتظارك.
يومٌ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون.
عند الله، حيثُ تجتمع الخصوم،
وحيث لا ينفع صمتك، ولا بياناتك، ولا تحميك صلاتك الموسمية بالوطن.
وهناك فقط، يُفصل في الدم...
وإن وجدت كلماتي هذه تُحرجك،
فاذهب إلى قبري في دورا- الخليل.
انبش رفاتي، مزّق كفني، اكسر شاهدي، افعل ما شئت...
فلن يضيرني شيء.
الميت لا يخاف.
الميت ينتظر.
وإن مررتَ يوماً، يا محمد، من أمام بيتي في دورا – الخليل،
توقّف.
لا تمرّ كعابر طريق، ولا كمسؤولٍ سابقٍ يهرب من مرآة الذاكرة.
انظر في عيون أطفالي.
انظر إلى خليل، ذاك الطفل الذي ما زال يجلس كل مساء قرب الشباك، يُحدّق في الأفق، يصدّق كل نسمة ريح، لعلّها تحمل روحي.
وانظر إلى مارية، الصغيرة التي كانت تقف عند الباب بضحكتها المنتظرة، وتعدّ دقائق عودتي.
انظر إليهم جيداً...
في عيونهم سترى الوطن الذي وُئِد، والأب الذي غاب، والحقيقة التي بقيت.
هناك، في تلك العيون،
تكمن كل الأسئلة التي لم تجرؤ على طرحها،
وكل الإجابات التي هربت منها،
وكل الحساب... الذي لا يسقط بالتقادم.
نم قرير العين يا محمد،
نم في قصورك، وبين أوراقك، وخلف ألقابك...
أما أنا، فسأنام في حفرة ضيقة،
لكنّي مرتاح الضمير.
وفي الآخرة... سنلتقي.
هذا النص، وإن كُتب بلغة الأحياء، فإنه لا يعدو كونه صوتاً تخييلياً لصديقٍ موجوع، اسمه محمود كلّم، كتب بجرح القلب عن رفيقٍ اسمه نزار بنات، رحل صامتاً تحت التراب، فحاول أن يُعيد إليه الصوت، لا ليواسي موته، بل ليُدين صمت الأحياء.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.



أضف تعليق
قواعد المشاركة