من تحت التراب... رسالة الشهيد نزار بنات إلى حسين الشيخ!

منذ 3 أسابيع   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

"العدل أساس الملك، وحين يسقط العدل، يسقط معه كل عرش وكل سلطان."

ـ قول مأثور.

 

"الشهيد ليس رقماً يُعد، بل روحاً تُضيء الطريق للآتين من بعده."

ـ محمود درويش.

 

من قاع القبر، يمد الشهيد نزار بنات يده، لا لِيُسامِح، بل لِيُذَكِّر بأنَّ الحساب آتٍ، وأن الدم لا ينسى. لم أمت حين أسكتُّم صوتي، بل بدأت محاكمتكم أمام ضمائركم الميتة.

هذا الصوت، وإن خَفَت، سيظل يُلاحِقُكم حتى آخر حفنة تراب.

نزار لم يرحل، بل ينتظر... يوم تُساقون أنتم إلى ميزان العدالة.

 

من أعماق القبر، حيث لا كذب، ولا بيانات شجب، ولا لقاءات مصالحات على جثث الأحياء، مددتُ يدي المرتجفة بالتراب، وصافحتك يا حسين الشيخ.

مباركٌ لك منصبك الجديد، مباركٌ لك هذا المجد المبني فوق أضلاعي المكسورة، وفوق صوتي الذي حاولتم خنقه، فصار صدىً لا يموت.

 

صافحتك، لا حبّاً، بل لأنني تذكرت أنك كنت من أوائل من حرَّض عليَّ، حين قلتُ كلمة حقٍّ في حضرة سادة المشروع الوطني المُباع.

صافحتك، لأن موتي كان بطاقة دعوتك الأولى إلى موائد الرفعة والمناصب، حيث يتم توزيع المنافع كأنها صُكوك غفران تُلقى فوق جراحنا المفتوحة.

 

سألتك وأنا أرتجف بين الحياة والموت:

ـ "يا حسين، ماذا حلَّ بغزة؟ وماذا عن أهلها؟"

رفعتَ رأسك قليلاً، وزغردتَ كمن يُعلن افتتاح فرع جديد للنكبة، ثم قلتَ:

ـ "غزة؟ مشغولون نحنُ بالتنسيقِ الأمنيِّ المُقدَّس، بالمفاوضات، بالبيان الختامي! غزة هناك، تصرخ وحدها."

 

يا الله... حتى موتانا يخجلون من سؤال الأحياء.

يا غزة... كنتُ أظنك آخر الحصون، فإذا بكِ تُترَكين تنزفين، وتُرمى جراحك بين فصائل تشحذ موتها على أبواب السياسة.

 

أيها الأحياء في رام الله، في الضفة، في القدس،

نحن، أموات فلسطين، نحسدكم لا على الحياة، بل على قدرة الصمت.

نحن، شهداء الرأي والكلمة، نتساءل: كيف لم تجف دماؤنا بعد، وأنتم تغسلون أيديكم منها كل صباح؟

 

حسين الشيخ، باركتُ لك وأنا أفترش حجارة القبر. لا تُصوِّر نفسك منتصراً، فالمنتصرون لا يهربون من المرايا.

المناصب تلمع كالذهب الكاذب، لكنها تُصبغ دوماً بلون من ماتوا ليقولوا الحقيقة.

 

يا غزة، قولي لهم: إن الشهيد حين يسقط، لا ينتهي، بل يبدأ.

والشهيد نزار بنات، حتى وهو تحت التراب، ما زال يسأل ويسأل:

ـ "ماذا فعلتم بالوطن؟"

 

يا حسين، يا من صافحتك بيدٍ من تراب، اعلم أنك مهما لبثتَ في قصورك، ومهما ركضت خلف المناصب والرتب، ومهما ظننت أن الدنيا قد خضعت لك... سيأتي يوم، تُحمَل فيه على الأكتاف كما حملوني، وتُدفن كما دُفنت. وسنلتقي، أنا وأنت، لا على موائد السياسة، بل أمام من لا تخفى عليه خافية. سنقف عراةً من كل لقب، وكل منصب، وكل خداع. وهناك، عند الله العادل، سيكون الحساب الحقيقي.

 

نداءٌ إليك، يا حسين: يمكنك الانتقام من قبري في دورا الخليل، افعل ما شئت، دنِّس قبري، اكسر شاهدي، مزق كفني، فلن يضيرني ذلك شيئاً. فأنا في انتظارك يوم الحساب، ذاك اليوم الذي لا تؤمن أنت به، وسنرى أيُّنا المفلح وأيُّنا الخاسر. فإني، والله، لم أنسَ.

 

وانظر إلى أطفالي، يا حسين، أولئك الصغار الذين سرقت منهم ضحكتهم، وأبقيتهم يكملون حياتهم أيتاماً بلا أب، يحملون جرح الغياب كل يوم، وينامون على وسائد الفراق، ينتظرون لقاءً لا يأتي إلا في أحلامهم البريئة... فأيُّ قلبٍ حملتَ، وأيُّ حسابٍ تنتظره؟

 

يا حسين، عندما تمرُّ من أمام بيتي في دورا الخليل، توقَّف لحظةً، وانظر في عيني ابني خليل، ذاك الطفل الذي ما زال واقفاً هناك، ينتظر عودتي التي تأخرت.

وانظر في عيني ابنتي ماريا، الصغيرة التي كانت تنتظرني كل مساءٍ على عتبة الباب، تحمل إليَّ ضحكتها البريئة. فأيُّ ذنبٍ اقترفته لتحرَم مني إلى الأبد؟

لا تمرَّ مرَّ العابرين يا حسين... ففي عيونهما سترى الوطن الذي خنقتموه، والأمل الذي وأدتموه، والحقيقة التي لا تموت.

 

[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

معين بسيسو... الشاعر الذي مات في المنفى وظلّ صوته في فلسطين

معين بسيسو، الشاعر الفلسطيني، لم يكن مجرد كاتب أو أديب، بل كان ذاكرة حيّة لفلسطين المخنوقة بالحديد والنار. مات في لندن، بعيداً عن … تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير