طارق الدوخي… الذي نجا من المجزرة ولم يَنجُ من الغيابِ
محمود كلّم
كاتب فلسطيني
لا أحد يعودُ من الغيابِ الطويلِ بنفسِ الملامحِ التي رحلَ بها، فكيف بمن لم يَعُد أصلاً؟
كيف لأمٍّ أَكلَ الغيابُ من رُوحها، أن تهدأ، أن تُطفئَ ضوء الانتظارِ عند بابِ القلبِ؟
منيفة طالب الصالحاني… امرأةٌ لم تُوَدِّع ولدها، ولم تستقبله.
امرأةٌ علَّقَت قلبها على جدارِ الشكِّ منذ السابعِ والعشرينَ من تموز، عام ألفين.
في تلك الليلةِ، نامتِ المدنُ، واستفاقتِ الأمهاتُ على صوتِ الغياب.
طارق علي الدوخي…
فتى صبرا وشاتيلا، النّاجي من فمِ الوحش، من المدافعِ والطوائفِ والحروبِ التي لم ترحم طفولته.
وُلِدَ في مخيَّم شاتيلا عام 1974، لكنه لم يعرف طمأنينة الرّضيعِ في سريرٍ آمن.
منذ اللحظةِ الأولى، كان يفتحُ عينيه على أصواتِ القذائفِ، لا أغاني المهد،
ويخطو أولى خطواته فوق رمادِ البيوت.
في عامه الثامن، شهِد واحدةً من أفظعِ مجازرِ القرن: مجزرة صبرا وشاتيلا 1982.
نجا بأعجوبة، لكن من ينجو فعلاً من مجزرةٍ كهذه؟
فقد والده علي، فقد أصدقاءَه، جيرانه، ملامح المكان… ولم يفقد وعيه بما جرى.
ظلّ الطفلُ فيه متيقّظاً، يصرخُ من الداخل، كلما نامت ذاكرةُ العالم عن المجزرة.
كبر طارق وسط الحُطام، لاجئاً في وطنٍ مكسور، غريباً في خيمةٍ لا تقي من الموت.
وحين شبّت حربُ المخيماتِ في الثمانينات، عاشها بكلّ تفاصيلها: الحصار، القصف، الدم، والجوع.
كان الموتُ رفيقاً يوميًاً، لكنّ طارق الدوخي… نجا من كلّ ذلك.
في العام 1989، حمل ما تبقّى من عمرِه ورحل إلى السويد،
ظنّاً أنَّ المنفى نهايةُ الألم… ولم يدرِ أنَّ للغيابِ وجعاً آخر.
في السويد، لم يكن لاجئاً عاديّاً.
كان فتى عبقريّاً، متفوّقاً في العلومِ والشرع، كما قال عنه صديقُه الشيخ سمير.
تعلَّم اللغة السويدية وأبدع فيها،
درس هندسة الكمبيوتر في جامعة مالمو، ثم إدارة المدارس في جامعة أوربرو،
عمل في التعليم، وكان له دورٌ في تأسيس "مدرسة السّلامة" في مالمو،
لم يكن مجرَّد مدير، بل أباً بديلاً لأطفالٍ يحملون على أكتافِهم منافي ثقيلة. ورغم كلِّ هذا… اختفى.
عصر يوم 27 تموز 2000، في مدينة هلسنبوري،
كان يُجهّزُ لافتتاحِ مدرسةِ "المعارف"، وكان الحُلمُ يكبر…
ثم اختفى.
لا شهود، لا كاميرات، لا أثر.
كان اسمُه يلمعُ في العملِ التربويّ والدينيّ، وكان لتميُّزِه أعداء.
ربّما امتدّت إليه يدُ الغدر…
وربّما لا يزالُ حيّاً، خلف جدرانٍ لا نعرفُها.
لكنّ قلب أُمِّه لا يعيشُ على "ربما".
منيفة الصالحاني، تلك الأمُّ المصلوبةُ على حافةِ الرجاءِ،
ما زالت تنتظرُ أن يُفتحَ بابٌ ذات مساء، فيدخل ابنُها كما كان: بابتسامته، بحقيبته، بصوتِه الذي لا يزالُ يملأُ البيت.
تسألُ كلَّ يوم:
هل قُتل؟
وإن قُتِل، أين جثمانُه؟
أليس من حقِّها أن تزور قبره؟
أن تقف عند شاهدةٍ تقول: هنا يرقدُ طارق، الفتى الذي نجا من الحرب ولم ينجُ من الغياب؟
كلُّ أُمٍّ في هذا العالمِ تَعرفُ شكل الغياب،
لكنَّ الغياب الذي لا يُفسَّر، الغياب الذي لا يُدفن… هو عذابٌ لا يُطاق.
من يُواسي قلبها؟
من يُخبرُها بما حلَّ بابنها؟
أيُّ قانونٍ في الدنيا يُبرِّر أن يُنسى شابٌّ بهذه الصورة؟
أن تتحوَّل سيرتُه إلى هَمسٍ، واسمُه إلى سؤالٍ يتيم؟
طارق الدوخي لم يكن رقماً، لم يكن مجرَّد لاجئٍ أو موظّفٍ أو مدير.
كان قصةً كاملة، كان مستقبلاً لأمِّه، لأطفالٍ تربّوا في مدرسته، لرفاقٍ تشاركوا معه الحلم.
واليوم… لا صورة جديدة، لا كلمة، لا قبر.
فهل يبقى للعدالةِ من معنى، إن لم تُنصف الأمهات؟
هل يبقى للذاكرةِ من جدوى، إن لم تحمِ أبناءَها من النسيان؟
يا طارق… إن كنت حيّاً، فاعلم أنَّ أُمّك لم تنم منذ خمسةٍ وعشرين عاماً.
وإن كنت ميتاً، فاعلم أنَّ قلبها ما زال يدقُّ كلّما مرَّت نسمةٌ تُشبه صوتك،
وأنّها ستظلُّ تنتظر…
حتى وإن وقف العالمُ كلُّه في وجهِ انتظارِها.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنينِ السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماءِ والهُويَّةِ الفلسطينيَّةِ. يرى في الكلمةِ امتداداً للصَّوتِ الحُرِّ، وفي المقالِ ساحةً من ساحاتِ النِّضالِ.

أضف تعليق
قواعد المشاركة