ياسر عرفات(أبو عمار): حين خانتهُ البنادقُ التي ربّاها
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي ذكرى غياب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، يعود هذا النص ليطرح الأسئلة المؤجَّلة، ويستعيد اللحظة التي انفصل فيها الحُلم عن حامله، والثورة عن رجالها.
ليست هذه قراءة في السيرة، بل تأمّل في الخيانة التي تتسلّل من الداخل، وفي البنادق التي تنقلب على صاحبها حين يُطلّ برأسه خارج الحسابات.
هذا النص لا يبحث عن متّهم، بل يُضيء الزاوية التي لم يلتفت إليها الكثيرون يوم ودّعنا الكوفية واحتفظنا بالبدلات.
ما بين مقرّه المُحاصر في المقاطعة، ووجهه الشاحب خلف زجاج الطائرة الطبية المتجهة نحو الغياب، سقطت أوراق كثيرة من دفتر الثورة؛ بعضها احترق بنار القذائف، وبعضها تمزّق بأظافر الخيانة.
لم يكن أبو عمار نبيّاً، لكنه حمل نبوءة فلسطين على ظهره مثل صليبٍ ثقيل.
كان يعلم أن من يحمل الحُلم طويلاً، ينهشه الحُلم نفسه، وأن البنادق التي لا تُصوَّب نحو العدو، تنقلب على كتف من علّمها الاصطفاف.
لذا، لم يُفاجئه الحصار، ولا الجوع، ولا حتى نباح الخونة خلف أبواب الاجتماعات، لكنه لم يتوقّع أن تُفتح له أبواب الموت من الداخل.
في رام الله، لم يكن محاصراً من الاحتلال وحده، بل من صمت الرفاق، ومن اليد التي لم تمتدّ حين وقع قلبه في الهبوط الأخير، ومن الأسماء التي شاركت في جنازته ببدلاتٍ رسمية ورؤوسٍ مرفوعة، بينما السُّمّ في دمه كان لا يزال طازجاً.
عرفات، ذاك الاسم الذي صار أقرب إلى رائحة زيتونةٍ عتيقة، كانت آخر كلماته:
"يريدونني بلا كوفية، بلا بندقية، بلا وطن.
يريدونني أسيراً، أو طريداً، أو قتيلاً، وأنا أقول: بل شهيداً، شهيداً، شهيداً."
وكانوا قد بدأوا فعلاً في رسم المرحلة الجديدة: مرحلة بلا عرفات.
لقد خذلوه حين قال "لا" في كامب ديفيد، وخانوه حين رفض أن يكون توقيع السلام بمثابة توقيع على شهادة وفاة القدس.
حاصروه في المقاطعة، ثم حاصروه في الكلمات، وفي الإعلام، وفي الاجتماعات، حتى صار موته قراراً أكثر منه قَدَراً.
سافر أبو عمار إلى مثواه الأخير، وهو محمولٌ لا على الأكتاف فقط، بل على صمتٍ طويلٍ من الأسئلة المؤجَّلة:
من سهّل خروجه إلى باريس؟
من بدّل أطبّاءه؟
من جلس على مكتبه في اليوم التالي، ولم يسأل: أين اختفت الكوفية؟
وفي جنازته، كانت فلسطين تبكيه بصمت الناجين من الخيانة.
تقاطرت الجموع من كلّ مكان، تتشبّث بطرف كوفيّته، كأنها تتشبّث بخيط ما تبقّى من الحُلم.
الهتافات كانت مبحوحة، وعيون الحرس القديم تفيض بما لم يُقَل.
أما الذين حضروا ليشهدوا نهايته، فقد وقفوا متماسكين، كأنهم لا يذكرون أنهم، ذات يوم، كانوا خلفه... أو ضدّه.
كان المشهد مسرحيّاً حدّ الوجع:
نعشٌ ملفوف بالكوفية... وعيونٌ تتقن البكاء أمام الكاميرا... بينما الجريمة تتلوّى بصمتٍ في الزوايا.
في المقاطعة، التي صارت شاهداً على الحصار والخيانة، ترك عرفات ظلّه على الجدران، وصدى صوته في الزوايا.
ما زالت الرائحة هناك، تشبه البارود المبلول، والمرايا التي لا تكشف كلّ شيء.
إنّ إغتيال الشهيد ياسر عرفات(أبو عمار) لم يكن فقط نهاية رجل، بل نهاية مرحلةٍ صدّقنا فيها أن الوطن أكبر من الحسابات، وأعمق من الألقاب، وأنّ من ماتوا وهم يُردّدون اسمه، كانوا أكثر صدقاً ممن جلسوا على طاولته ينتظرون غيابه.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنينِ السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماءِ والهُويَّةِ الفلسطينيَّةِ. يرى في الكلمةِ امتداداً للصَّوتِ الحُرِّ، وفي المقالِ ساحةً من ساحاتِ النِّضالِ.
مفاتيح تأملية للمقال:
"ياسر عرفات: السيرة الذاتية السياسية" – سعيد أبو الريش
شهادات من كتاب "أبو عمار: سيرة شعب" – ناصر اللحام
مقابلات موثقة في أرشيف مؤسسة ياسر عرفات
تحليل موسّع في مجلة "شؤون فلسطينية" حول مرحلة الحصار
تسريبات وتصريحات نُسبت لمحمد دحلان وآخرين في ملف التسميم (للاستخدام الرمزي، لا التوثيقي)

أضف تعليق
قواعد المشاركة