ذاكرةُ الدم: حينَ يكونُ الصمتُ شريكاً في القتل
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي حضرة الوجع الفلسطيني، لا يعود الكلام مجرد حروف، بل يتحوّل إلى شهادةٍ على زمنٍ لا يزال الجرح فيه مفتوحاً. هذه السطور ليست استذكاراً للماضي، بل تذكيرٌ بأن الدم لم يجف، وأن الصمت لا يزال شريكاً في القتل.
منذ عام 1937، والدم الفلسطيني يسيل، ولا من يسأله إلى أين يذهب. مجازر تلو مجازر تكتب تاريخاً من الألم، لا تزيّنه الشعارات، ولا تُخفّف من وطأته البيانات.
في حيفا، القدس، يافا، العباسية، الطنطورة، وصبرا وشاتيلا، سُفكت دماء الفلسطينيين بدم بارد، وكأنّ وجودهم جريمة، وكأنّهم عابرون على أرضٍ لا تعترف إلا بالغريب.
في عام 1937، وقعت أولى المجازر في حيفا والقدس. وبعد عام، تكرّرت الجريمة في المدينة ذاتها، وكأنّ النداء لم يكن كافياً. ثم جاءت مجزرة بلد الشيخ عام 1939، فالخصاص عام 1947، فالعباسية عام 1947، وكلّها قبل أن تبدأ النكبة رسميّاً، لكنّ النكبة لم تكن نقطة البداية، بل كانت ذروة المجازر التمهيدية التي هدفت إلى نزع الفلسطيني من أرضه، ومن اسمه، ومن ذاكرته.
وفي عام 1948، عام النكبة الكبرى، اختُتم الفصل الأول من المجازر بمذبحة الطنطورة، التي رُويت الأرض فيها بدماء أبنائها، فيما كان العالم قد أتقن الصمت، واختار أن يشاهد الجريمة دون أن يرف له جفن.
توالت بعدها المذابح: يافا 1948، خان يونس 1956، القدس 1967، وصولاً إلى صبرا وشاتيلا عام 1982، حين وقفت البشرية على أعتاب واحدة من أبشع جرائم العصر، ثم أدارت ظهرها ومضت. وما بين المجزرة والمجزرة، كانت هناك خيبات، وخذلان عربي ودولي لا يقلّ بشاعة عن القتل نفسه ، لكنّ ما هو أشدّ إيلاماً من الرصاص، أن من يُفترض أنّهم يمثلون هذا الشعب العظيم، لم يأتوا من بين صفوفه، بل هبطوا عليه في ليلةٍ مدلهمة، بمساعدة الأعداء، واحتكروا الحديث باسمه. صار الفلسطيني البسيط، الذي حمل الوطن في قلبه، رهينةً لسلطةٍ لا تُشبهه، ولا تفهم معنى أن ينام الأطفال تحت القصف، وأن تحفر الأمهات أسماء أبنائهن على جدران البيوت قبل أن تُهدم.
ومع ذلك، لم ينكسر الفلسطيني. لم يُهزَم.
هو شعب لا يعيش إلا واقفاً، ولو انحنى، فليلتقط حجراً.
شعب لا يكتب تاريخه بالحبر، بل بالدم والخذلان والمقاومة. وما بين مجزرةٍ وأخرى، ينهض من جديد، كأنّ الوجع قدره، وكأنّ الكرامة دينٌ لا يسقط بالتقادم.
وما أقسى أن يُذبح شعبٌ بأكمله على مرأى من العالم، ثم لا يجد حتى من يبكيه. الصمت الذي يلفّ المجازر ليس حياداً، بل شراكةٌ كاملة في الجريمة.
خذلان الأصدقاء، وصمت الأشقاء، وتواطؤ المجتمع الدولي، كلّها وجوه أخرى للمجزرة ذاتها.
لم يكن القاتل وحده يحمل السلاح، بل حمله معه كلّ من تظاهر بالعمى، وكلّ من صمت وهو يعرف الحقيقة.
وهكذا، لا يموت الفلسطيني برصاصةٍ فقط، بل يموت في كلّ مرة يُختزل فيها وجعه إلى رقم، وتُختصر فيها قضيّته إلى نشرة أخبار... ثم يُطفأ التلفاز.
ليس أصعب من أن يُقتل شعب ويُنسى، وأن تُدفن القضايا تحت ركام النسيان. لكن ما دام في القلب نبض، وفي الذاكرة بقايا صور، فإن حكاية الفلسطيني لن تُختصر، ولن تُنسى، مهما طال الصمت.
[محمود كلَّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنينِ السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماءِ والهُويَّةِ الفلسطينيَّةِ. يرى في الكلمةِ امتداداً للصَّوتِ الحُرِّ، وفي المقالِ ساحةً من ساحاتِ النِّضالِ.


أضف تعليق
قواعد المشاركة