الدكتور صالح الشيباني... من تُرابِ فلسطين تَكَوَّنَت رُوحُهُ
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي زمنٍ عزّ فيه النُبل، وتوارت فيه الشهامة خلف ركام المصالح، برز الدكتور صالح الشيباني كالنجم في الليلة الظلماء، يشقّ درباً من ضوءٍ في عتمة الواقع.
هو الليبيُّ مولداً، الفلسطينيُّ هوىً وانتماءً، سكن قلبه حبُّ الأحرار، وارتوى وجدانه من نبع الأصالة والمروءة.
ما إن تراه حتى تلمح في قسمات وجهه سكينة العارفين، وفي صوته وقار الحكماء. جمع في شخصه بين العقل والرحمة، وبين الجِدّ والابتسامة.
ترأّس البعثة الليبية في بودابست، ثم مضى بسيرته الطيبة إلى غينيا، فكان هناك كما كان هنا... جبلاً لا تهزّه الرياح، وسحابةً لا تبخل بالمطر.
كرمه لا يُحدّ، لا بالسؤال ولا بالصمت؛ فمن سأله وجد، ومن لم يسأل فُوجئ بعطائه يطرق بابه بلا موعد.
يواسي المحتاج، ويمسح دمعة اليتيم، ويصنع من الأمل خبزاً يوزّعه على الجائعين. يجمع بين العطاء والكتمان، وبين السخاء والإحسان.
الشجاعة وُلدت باسمه، فهو لا يخشى في الحقّ لومةَ لائم.
يتقدّم إذا تأخّر الآخرون، ويقف إذا مال الجمع. كأن قلبه سيفٌ من نور، لا ينكسر ولا يصدأ.
أمّا فلسطين، فكانت له أمّاً ثانية، وقضيةً أولى. لم تكن بالنسبة له مجرّد أخبارٍ على الشاشات، بل كانت جُرحاً حيّاً يسكن في صدره، وهمّاً يوميّاً يتقلّبه مع الليل والنهار.
تحدّث عنها بدم القلب لا بحبر القلم، وناصرها لا من خلف المكاتب، بل من ميادين الدبلوماسية، حيث رفع صوتها عالياً في المحافل الدولية، وأعاد التذكير بحقّها في زمن النسيان والتخاذل.
كان يرى في التين والزيتون رمزيةَ الأرض المباركة، وعبقَ التاريخ العصيّ على الزوال. كما يرى في الزعتر والميرمية رائحة الجدّات، ونكهة الأصالة، ودواء الروح إذا أنهكتها الغربة.
فلسطين في وجدانه لم تكن فقط قضية، بل كانت رائحةً، وطعماً، ونبضاً... كانت خبزاً وزيتاً، وورقَ زعترٍ في كفّ طفلٍ يحلم بالعودة.
حمل همّ فلسطين فوق كتفيه كما تحمل الجبالُ ثقلَ الأرض، فلم تهن عزيمته، ولم تتراجع خطواته. كان لسانها الناطق، وقلبها النابض، وظلَّها الحنونَ في الغربة.
وعندما تتحدّث معه، تشعر وكأنك تُصغي إلى غسان كنفاني، وترى في ملامحه شيئاً من الفنان ناجي العلي.
تشعر بأنه موسوعة فلسطينية تمشي على قدمين؛ فلسطين بكلّ تفاصيلها تقيم في عقله كما تسكن في قلبه، من التاريخ إلى الجغرافيا، ومن المخيم إلى الميدان، ومن القصيدة إلى البندقية.
في مواقفه ترى الجِناسَ بين الأقوال والأفعال؛ فما قاله بالأمس طبّقه اليوم، وسيكرّره غداً ما دام في العمر بقيّة.
وفي طباعه، يتجلّى الطباق بين القوّة واللين، وبين الصرامة والرحمة.
أمّا في محيّاه، فترى التشبيه حيّاً: كأنّه كتابٌ مفتوح من الأخلاق، وشمسٌ تُضيء بغير أن تحرق.
من ليبيا انطلقتَ، ولكنّك نزلتَ في قلب فلسطين مقاماً، وبين أهلها خليلاً وناصراً.
أنت يا دكتور صالح، كالنخلةِ واقفٌ رغم الرياح، تعطي بلا انتظار، وتظلّ شامخاً وإن قُطِعت الجذور.
فسلامٌ على قلبك، وسلامٌ على دربك، وسلامٌ على كلّ حرفٍ قلته من أجل الحقّ.
سلامٌ على مَن حمل فلسطين في قلبه، ومضى بها في دروب العالم صوتاً وضميراً.
كتبنا عنك لا لنفيك حقّك، بل لنشهد بأننا عرفناك نبيلاً، وأننا عشنا زمنك فازددنا بك فخراً.

أضف تعليق
قواعد المشاركة