فرحان السعدي: الشَّيخ الذي صامَ عن الحياةِ وارتوى بالمجدِ
محمود كلّم
كاتب فلسطينيعلى جبالِ جنين، حيثُ ينمو التينُ والزيتونُ، ويعانقُ الزعترُ الميرميةَ في عبقِ الأرضِ الطاهرةِ، وُلدَ شيخُ المجاهدينَ فرحان السعدي في بلدة المزار، قضاء جنين، عام 1856، كأنما خرجَ من صخرةٍ صامدةٍ أو من جذعِ سنديانةٍ لا تنحني للعواصفِ. نشأَ بين العلماءِ، فكان القرآنُ زادَهُ، والإيمانُ سلاحَهُ، والحقُّ رايتَهُ التي لم تسقط حتى لحظةَ الإعدامِ.
لم يكنِ الشيخ فرحان رجلاً عابراً في زمنِ الاحتلالِ، بل كان شعلةً لا تنطفئُ، وفارساً لم يترجَّل عن دربِ الكفاحِ.
في عامِ 1929، حين كان الاحتلالُ البريطانيُّ يُحكمُ قبضتَهُ على فلسطين، لم يسكت، بل امتشقَ بندقيتَهُ وأقسمَ أن تبقى روحُهُ معلقةً في سماءِ الوطنِ، ترددُ مع الريحِ: "هيهاتَ مِنَّا الذلةُ!" أسسَ مجموعةً مسلحةً من رجالٍ صُلبينَ كالزيتونِ، أحرارٍ لا يركعون إلا للهِ.
التقى بالشيخ عز الدين القسام، وصار عقلَهُ المدبر بعد استشهادِهِ، فاعتصمَ في الجبالِ، حيثُ لا تصلُ يدُ الخونةِ، وظل شوكةً في حلقِ الاحتلالِ، حتى صار اسمُهُ يرعبُ الإنجليز. فحاصروهُ في قريته "المزارِ" غربيَّ جنين، وتوسط مختار القرية لديه لتسليم نفسه تفادياً لهدم البيوت وحفاظاً على أرواح السكان.
بروح المسؤولية، قبل الشيخ ذلك، فسلَّمَ نفسَهُ مع ثلاثةٍ من رفاقه في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1937.
نُقلَ إلى سجن عكا، حيثُ خضع لمحاكمةٍ شكليةٍ لم تكن إلا مسرحيةً هزليةً حضرها إعلامٌ دوليٌّ ومحليٌّ، انتهت بإصدارِ حكم الإعدام بحقِّهِ.
في 24 رمضان 1356هـ (22 نوفمبر 1937)، كان الشيخُ واقفاً بشموخٍ، كأنَّهُ زيتونةٌ لا تقتلعُها الريحُ، كأنَّهُ آيةٌ من آيات البطولة، لا يرتجفُ، ولا يطلبُ الرحمة، فقط يبتسمُ ابتسامة الشجعان، ويقولُ لهم بصمت المقاتلين: "أنا لا أخشى الموت، فالموتُ لي حياةٌ!" لم يبكِ، ولم يستجدِ، بل ودعَ الحياةَ كما يليقُ بفارسٍ، كما يليقُ برجلٍ حملَ على كتفَيهِ عباءةَ العزةِ، ومضى نحو المجدِ، يرددُ في قلبِهِ كلماتِ الأنبياءِ:
"وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعلَونَ إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ."
أعدمتهُ بريطانيا وهو صائمٌ، وكأنها ظنَّت أنها بذلك ستقتلُ روحهُ، لكنها لم تعلم أن هناك، في جبال جنين، وبين سهول فلسطين، ستنمو روحُهُ من جديدٍ، كأنها بذرةٌ صلبةٌ لا تموتُ.
استشهد فرحان السعدي، لكنه بقي، ظل حاضراً في الأرض، في الهواء، في عيون الأطفال، في صوت المؤذنينَ، في زخاتِ المطرِ، في دماء الشهداء، وفي قلب كلِّ من يؤمنُ بأن الحرية تؤخذُ ولا تُمنحُ.
وهذا ما أدركهُ الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي، حين رثاهُ قائلاً:
"قوموا انظروا فرحانَ فوقَ جبينِهِ أثرُ السجودِ
يمشي إلى حبلِ الشهادةِ صائمًا مشيَ الأسودِ
سبعونَ عاماً في سبيلِ اللهِ والحقِّ التليدِ
خجلَ الشبابُ من المشيبِ بلِ السنونُ من العقودِ"
لقد رحلَ الشيخ فرحان، لكن صوتهُ لم يرحل، بقي معلقاً بين السماء والأرض، يئنُّ في ليالي فلسطين الطويلة، كأنَّهُ طيفُ شهيدٍ لم يجد قبراً يحتويهِ. وقفَ على منصةِ الإعدامِ صائماً، منتصب القامة، بينما كانت الشمسُ تحتضرُ خلف جبالِ جنين، وكأنها تبكي رجلاً كانت روحُهُ امتداداً لنورِها.
بقيت فلسطين كما تركها، جريحةً تنزفُ، تئنُّ تحت وطأةِ الاحتلالِ، والمآذنُ تنادي، لكن الشهداء لا يعودون.
ويبقى الشيخ فرحان السعدي منارةً من مناراتِ الجهادِ، ومدرسةً للمقاومةِ، ينهلُ منها المقاومونَ على مرِّ الزمانِ.

أضف تعليق
قواعد المشاركة