الشَّهِيدُ مرعي الحسين: نَسرٌ حَلَّقَ في سماءِ المجدِ ولم يهبِط!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيهو ابنُ الأرضِ التي لا تموتُ، ابنُ الجليلِ الذي روى بدمهِ طريقَ العودةِ. لم يكنِ اللجوءُ ضعفاً، ولم تكنِ الغربةُ استسلاماً، بل كانت شرارةً أوقدت في قلبِهِ نارَ الثورةِ، فحملَ البندقيةَ وسارَ على دربِ الشرفِ والكرامةِ، مجسِّداً مقولةَ: نموتُ ولن نركع!
عاشَ مرعي الحسين نكبةً لم تكن مجردَ فقدانِ بيتٍ، بل كانت فقدانَ وطنٍ، وكانَ يدركُ أنَّ الوطنَ لا يُستعادُ بالدموعِ، بل بالنارِ والرّصاصِ.
من ناعمة صفد إلى الجنوب اللبناني، حملَ وجعَ الشتاتِ، لكنَّهُ لم يحمل روحَ المستسلمِ، فصارَ طائرَ الفينيقِ الذي ينبعثُ من رمادِ التهجيرِ ليحلِّقَ مجدَّداً في سماءِ العزَّةِ.
حينَ التحقَ برفاقِ الدّربِ في قوات التحرير الشعبيّة، لم يكن يبحثُ عن مجدٍ شخصيٍّ أو رتبةٍ، بل عن فلسطين، كلِّ فلسطين. هناك، في بلدة قطنا السّوريّة، تعلَّمَ فنونَ القتالِ، ليحملَ روحهُ على راحتهِ ويعبرَ بها إلى أغوار الأردن، حيثُ كانَ الموعدُ مع الشهادةِ، الموعدُ مع الخلودِ.
في التاسعِ من نيسان عام 1969، انطلقت روحهُ نحو العلياءِ، وارتقى جسدُهُ شهيداً على ترابِ الأغوارِ، لكنَّ صدى صرختهِ ظلَّ يهدرُ: لن ننسى... لن نغفر! لم يكن مرعي الحسين مجرَّدَ مقاتلٍ رحلَ، بل كانَ رايةً زرعها الزمنُ في قلوبِ الأحرارِ، فما زالت عيناهُ، حتّى بعدَ استشهادِهِ، تنظرانِ إلى الأفقِ، تترقَّبانِ شروقَ الشمسِ على أرضِ فلسطين.
يا مرعي...
لو كنتَ حجراً، لارتجفَ الحجرُ من بأسِكَ، ولو كنتَ سيفاً، لما غُمدتَ، ولكنَّكَ كنتَ إنساناً حرّاً، آمنَ أنَّ الأرضَ لمن يرويها بدمهِ، فكتبتَ بدمائِكَ قصيدةً عنوانها العزَّةُ، أبياتُها الشّجاعةُ، وقافيتُها البطولةُ.
لم يكنِ استشهادُكَ نهايةً، بل بدايةَ طريقٍ، ولأنَّكَ كنتَ أوَّلَ الشهداءِ من مخيّماتِ الجنوبِ، كنتَ النّبضَ الذي حرَّكَ البحرَ في وجهِ الرِّيحِ.
خرجتِ الجماهيرُ تودِّعُكَ، يتقدَّمُها السيدُ موسى الصدرُ والسيدُ شفيقُ الحوتِ والدكتورُ حدَّادٌ، وامتلأت شوارعُ المخيَّمِ بدموعِ الرّجالِ وصيحاتِ الأطفالِ، حتَّى بدا المخيَّمُ كأنَّما ارتدى ثوبَ المجدِ، وسارَ خلفَ نعشِكَ بكلِّ إباءٍ.
ولكن، يا شهيدَ الكرامةِ، خذلتكَ الأيدي التي كانَ يُفترَضُ أن ترفعَ اسمَكَ عالياً، فغابَ ذكرُكَ عن أرشيفِ الثّورةِ، كأنَّما البطولةُ تموتُ بعدَ أن يرحلَ الأبطالُ!
ولكن لا... البطولةُ لا تُنسى، لأنَّ الشّهداءَ هم حروفُ الخلودِ في سفرِ الحرّيَّةِ.
يا مرعي، أيُّها الفارسُ الذي لم يترجَّل!
نم قريرَ العينِ، فإنَّ دماءَكَ لم تذهب هدراً، وإنَّ صدى بندقيَّتِكَ ما زالَ يدوي، يوقظُ الأحرارَ، ويذكِّرُهم أنَّ طريقَ التّحريرِ ليسَ في دهاليزِ السّياسةِ، بل على دربِ الشّهداءِ!
بدأتِ الثَّورةُ بنداءِ الحقِّ الصّارخِ: "تحرير كامل التّراب الوطني الفلسطيني"، فانطلقت رصاصاتُ الفداءِ تشقُّ طريقَها في صدرِ المحتلِّ، وزحفت قوافلُ الشّهداءِ تحملُ أرواحَها قرابينَ على مذبحِ الوطنِ. كانَ الشّعارُ سيفاً، وكانت الرّايةُ ناراً تحرقُ كلَّ وهمٍ بالاستسلامِ، وكان الدّمُ بوصلتنا التي لا تخطئُ طريقَ العودةِ.
لكن أيُّ طريقٍ هذا الذي انحرفَ؟ كيفَ تحوَّلتِ البندقيَّةُ التي كانت تطلقُ النّارَ على العدوِّ إلى يدٍ ممدودةٍ للمصافحةِ؟ كيفَ سقطَ شعارُ التّحريرِ الكاملِ في مستنقعِ المساوماتِ، وتحوَّلَ النِّضالُ من مقاومةٍ شرسةٍ إلى "تنسيقٍ أمنيٍّ مقدَّس"؟ كيف انتهى بنا الحالُ إلى أن نحرسَ مستوطناتِ العدوِّ بدلَ أن نقتحمَها؟
أيُّ خذلانٍ أكبرُ من هذا؟
أيُّ طعنةٍ أشدُّ من هذه؟
ولكن، لا يا مرعي، لا يا كلَّ الشّهداءِ، لن تذهبَ دماؤُكم هدراً. أنتم لم تموتوا من أجلِ وطنٍ يُباعُ على طاولةِ المفاوضاتِ، ولم تقدِّموا أرواحَكم ليُنسى عهدُ المقاومةِ. دماؤُكم ستبقى لعنةً على المتخاذلينَ، وناراً تحتَ رمادِ الانتظارِ، ستشتعلُ من جديدٍ حينَ تستيقظُ الأمَّةُ من سباتِها، وحينَ تعودُ الرّايةُ إلى أصحابِها الحقيقيِّينَ، أولئك الذينَ لا يعرفونَ طريقاً سوى دربِكم، دربِ العزَّةِ والتّضحيةِ.
المجدُ لكم، والخزيُ لمن خذلكم!


أضف تعليق
قواعد المشاركة