حينَ يغيبُ الكبارُ... وداعاً أَبا سعيد!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيرحلَ الفارسُ الهادئ، والسندُ الوفي، رحلَ من كانَ للكرمِ باباً، وللشجاعةِ عنواناً، وللشهامةِ رايةً لا تنكسر. لم يكن مجرد رجلٍ عابرٍ في هذه الحياة، بل كانَ قلباً نابضاً بالعطاء، وسنداً لكل من عرفه. عاش عمره متمسّكاً بالمروءة، حاملاً رايةَ الخير، ناشراً بين الناسِ قيمَ الأصالةِ والوفاءِ والإحسان. خسرتكَ عشيرة عرب السّمنيّة كما تخسرُ الأرضُ نبعَها، وكما يفقدُ البحرُ موجَهُ الوفي، وكما تحزنُ السماءُ حينَ يغيبُ بدرُها. كنتَ لها عماداً وسنداً، وكنتَ للحقولِ أنفاساً تُحييها، وللأرضِ قلباً يخفقُ بحبِّها. كنتَ لرجالها أخاً، ولنسائها ملاذاً آمناً، ولأطفالها أباً رحيماً، يفيضُ حبهم حينَ يذكرونَ اسمكَ، وتخشعُ العيونُ حينَ يتذكَّرونَ صوتَكَ ونصحَكَ.
محمود سعيد كندي (أبو سعيد)... عشتَ نبيلاً كما تعيشُ الأشجارُ العظيمة، تضربُ بجذورِها في الأعماق، تمنحُ بلا مِنّة، وتظلِّلُ من يلجأُ إليها، ثمَّ ترحلُ بصمت، لكنَّ عبيرَها يبقى خالداً في الأفق. كنتَ زيتونةً شامخةً لا تهزُّها الرياح، وزعتراً يملأُ الدروبَ عبقاً، وميرميةً تُطيِّبُ المجالسَ.
كنتَ شجرةَ ليمونٍ شامخةً، تعطي بلا حساب، وتزهرُ في كلِّ فصولِ العطاء. كنتَ رجلاً يصافحُ الأرضَ بيديهِ، يحرثُ الأملَ في حقولِها، ويروي ترابَها بعرقِهِ، لتبقى شاهدةً على جهدهِ، ويحملَ ثمرُها جزءاً من روحِهِ. كنتَ ترى في الزيتونِ صلابةَ الحياة، وفي الزعترِ عطرَ الذكرى، وفي الليمونِ حكاياتٍ لا تنتهي عن صبرِ الأوفياءِ.
ما زالت البيوتُ تحكي عن كرمِكَ، وما زالت الحقولُ تروي حكاياتِ شهامتِكَ، وما زالت الحاراتُ تحفظُ وقعَ خطاكَ. كنتَ رجلاً إن قالَ فعل، وإن وعدَ وفى، لم تُبدِّلكَ الأيام، ولم تُغيِّركَ الدنيا، بقيتَ كما كنتَ منذُ عرفتكَ الأرضُ، نقيّاً كالمطر، صافياً كالينبوع، كريماً كالغيمِ حينَ يُهدي الأرضَ ماءَهُ. كنتَ صوتَ الحقِّ في زمنِ التردُّد، ويدَ الخيرِ في زمنِ الشحِّ، وكنتَ رجلاً يرفعُ رايةَ النبلِ أينما حلَّ، لا يهابُ في قولِ الحقِّ لومةَ لائم، ولا يتردَّدُ في مساعدةِ محتاجٍ أو إكرامِ ضيف.
يا أبا سعيد، رحلتَ بصمت كما عشتَ بصمت، لكنَّ صداكَ في القلوبِ لا ينطفئ. كيفَ يغيبُ عن الدروبِ من كانَ نورَها في عتمتِها؟ وكيفَ يُنسى مَن كانت يداه تمتدّان لمساعدة المحتاج، وصوتُه درعاً للحقِّ؟ كيفَ يرحلُ من كانَ للناسِ أباً في حنانِهِ، وأخاً في شهامتِهِ، وصديقاً في وفائِهِ؟ رحلتَ، لكنَّ الدروبَ ما زالت تفتقدُ خطواتِكَ، والمجالسُ تفتقدُ حديثَكَ، والمنازلُ تفتقدُ ظلَّكَ، وكأنَّ غيابَكَ نزعَ من كلِّ ركنٍ دفئَهُ.
خسرتكَ عشيرة عرب السّمنيّة، لكنَّ ذكراكَ ستبقى، ما بقيَ في الأرضِ زيتونٌ، وما ظلَّ في الحقولِ زعترٌ وميرمية.
ستظلُّ حكاياتُكَ تترددُ بينَ الألسنِ، وسيرتُكَ الطيِّبةُ تسكنُ القلوبَ، وسيمتدُّ أثرُكَ في الأجيالِ، تماماً كما تمتدُّ جذورُ الزيتونِ في الأرض، وكما ينشرُ الزعترُ عبقَهُ في الحقولِ، وكما يضيءُ القمرُ سماءَ الليلِ، فلا يغيبُ نورُهُ مهما طالَ الغيابُ.
وداعاً أيها النبيل محمود... رحمكَ اللهُ، وأسكنَكَ فسيحَ جناتِهِ، وجعلَ ذكراكَ عطراً لا يزول، ونوراً لا ينطفئ، وسيرةً لا تُمحى، كما يبقى عبقُ الزعترِ في الصباحِ، وكما يستمرُّ الزيتونُ شاهداً على خلودِ الأرضِ وأهلِها الطيِّبين.

أضف تعليق
قواعد المشاركة