أبو عرب: صوتُ الأرضِ وحارسُ الذاكرة الفلسطينية
محمود كلّم
كاتب فلسطينيعلى تلالِ الشجرة، بين زيتونةٍ عجوزٍ وتينةٍ تَحرُسُ ظلالها، وُلدَ إبراهيم محمد صالح عام 1931م، ليكونَ لاحقاً الاسم الذي اختصرَ وجعَ فلسطينَ كُلَّهُ في صوتٍ واحدٍ: أبو عرب.
طفلٌ فلسطينيٌّ يرى الثورةَ تكبرُ في العيونِ عامَ 1936، يسمعُ الهتافاتِ الأولى، ويُراقبُ بنادقَ الفلاحينَ وهي ترتجفُ عشقاً في أيديهم.
هناك، في تلك القريةِ الصغيرةِ جنوبَ غربِ طبريا، انغرست في قلبِهِ أولى الأغاني وأولى الدموع.
ثم جاءتِ النكبةُ، فكسرت قلوبَ القرى، ودفعت أهلهُ نحو المنافي.
في حمص، حيثُ مخيمُ العائدين، كان الشتاتُ يزرعُ وجعاً آخرَ في قلبِ الطفلِ الذي أصبحَ شاباً يبحثُ عن وطنهِ في وجوهِ اللاجئين. استُشهدَ والدُهُ عام 1948، لكنَّ الوصيةَ لم تمت.
حملها أبو عرب كمن يحملُ وطناً على كتفيهِ، وسارَ بها بين خيامِ اليأسِ، وغنّى.
في الخمسينياتِ، وقفَ أمامَ ميكروفونِ صوتِ العرب في القاهرةِ، وقلبُهُ ممتلئٌ بالعروبةِ والأملِ. هناكَ سَمِعَهُ الناسُ لأولِ مرةٍ، ومن هناكَ وُلِدَ اسمُهُ الجديد: أبو عرب.
صارَ الصوتَ الذي يقودُ المسيراتِ، والحنجرةَ التي تفتحُ للثورةِ نافذةً في كلِّ قلب.
حينَ أنجبت زوجتُهُ ابنهُ الثاني، سمّاهُ عرب، ليكتملَ الحلمُ في اسمهِ وأسماءِ أبنائهِ، وكأنَّ فلسطين كلَّها تختصرُ في بيتِهِ، في صوتِهِ، في عينيهِ اللتينِ لا تريانِ سوى طريقِ العودة.
أبو عرب لم يكن شاعراً عابراً، بل صارَ حنجرةَ المنفى، وأرشيفَ الذاكرةِ الفلسطينيةِ، ورفيقَ اللاجئينَ في ليالي الوحدةِ الطويلة. غنّى لدمِ عبد الرحيم محمود في معركةِ الشجرة، وغنّى للشهيدِ وللمعتقلِ وللأرضِ المسروقة. غنّى لبحرِ حيفا، وزيتونِ الجليل، وتينِ صفد، وسماءِ فلسطين.
في بيروت، التحقَ بإذاعةِ الثورةِ، وكان صوتُهُ طريقاً آخرَ للمقاومةِ.
في كلِّ خيمةٍ، في كلِّ بيتٍ فلسطينيٍّ، كانت أهازيجُهُ كالماءِ والخبزِ والزيتِ. لم يكن مجردَ صوتٍ من الإذاعةِ، بل كان الأبَ والرفيقَ والمقاتلَ الذي يحملُ بندقيتهُ أغنيةً، وأغنيتهُ بندقية، لكنَّ عام 1982 كان عاماً قاسياً في حياةِ أبو عرب، فقدَ ابنهُ معن في اجتياحِ لبنان. كانت تلكَ المأساةُ هي الصدمةَ الأكبرَ في حياتِهِ، حيثُ اغتالَ الحزنُ قلبَهُ، وتركت ذكرى معن جرحاً عميقاً في روحِهِ.
أبو عرب، الذي كان دائماً يُشحذُ الأملَ في وجوهِ اللاجئين، وجدَ نفسَهُ غارقاً في حزنٍ لا ينتهي؛ حزنِ الأبِ الذي يفقدُ ابنهُ، وحزنِ الفلسطينيِّ الذي يخسرُ جزءاً من أرضِهِ.
وحينَ اغتيلَ ناجي العلي، بكى أبو عرب طويلاً، وحملَ اسمَهُ إلى فرقةِ الفنونِ الشعبيةِ، ليبقى ناجي حياً في رقصةٍ ودبكةٍ، كما بقيَ حياً في خطوطِ الريشة.
غنّى أبو عرب أكثرَ من 300 أغنيةٍ، صارت كلُّها جزءاً من ذاكرةِ الشعبِ. من "سجن عكا" إلى "يا ظريف الطول"، ومن "يا موج البحر" إلى "هدّي يا بحر هدّي"، كان صوتُهُ الجسرَ بينَ الجرحِ والأمل.
في عامِ 2012، وبعدَ 64 عاماً من النفي، عادَ أبو عرب إلى فلسطين. وقفَ هناكَ، أمامَ توتةِ الدار، وغنّى لها كما يُغنّي العاشقُ لمحبوبتِهِ الغائبة.
دخلَ قريتَهُ الشجرة، ووقفَ على ترابِها كأنَّهُ طفلٌ يعودُ إلى حضنِ أمِّهِ بعدَ ضياعٍ طويل.
وفي 2 مارس 2014، في مخيمِ العائدينَ بـ حمص، غادرَ أبو عرب هذهِ الحياةَ، لكنَّ صوتَهُ بقي.
خرجت فلسطينُ كلُّها في جنازتِهِ، خرجَ الزيتونُ، والتينُ، والحنينُ، واللاجئون، خرجَ الحلمُ الذي لم يمت.
أبو عرب لم يكن مغنياً، بل كان أرشيفاً حياً للوجع. لم يكن شاعراً، بل كان سفيرَ المخيماتِ إلى العالمِ. لم يكن مجردَ فنانٍ، بل كان وجهَ فلسطين الذي لا يغيب.
رحلَ الجسدُ، وبقيَ الصوتُ.
بقيتِ الأغنيةُ.
وبقيتِ الوصيةُ.
"يا ظريفَ الطولِ زور بلادنا..."
رحمك اللهُ يا أبا عرب...
صوتُك سيبقى زيتونةً في جبالِ فلسطين،
وتينةً على بابِ الشجرة،
ونشيداً على شفاهِ العائدين.


أضف تعليق
قواعد المشاركة